الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

لعبة بوكر على جثث المرفأ

لوحة لعبة الورق، لبول سيزان.
لوحة لعبة الورق، لبول سيزان.
A+ A-
 
إيلي حداد
 
كان لزلزال المرفأ، في أية دولة أخرى في العالم، حتى في جمهوريات الموز، أن يُحدِث صدمة سياسية تؤدي الى إقالة أو إستقالة كل الطقم السياسي، من رئيس الجمهورية الى أصغر المسؤولين عن إدارة المرفا.
أما في لبنان، وبسبب "التوازنات الطائفية" واحتراماً لمشاعر "المكوّنات الأساسية"، فإن هذا الأمر يبقى صعب المنال، إن لم يكن مستحيلاً. لكن الأسوأ من هذا كله، هو في لعبة "البوكر" التي يجيدها كل الطاقم السياسي اللبناني. فالزعامة هنا تقترن بمدى إتقان هذه اللعبة، حيث يكون الرابح هو الذي يستطيع جمع العدد الأوفر من الاوراق القوية إضافة الى الحفاظ على هدوء الأعصاب وإخفاء حقيقة مشاعره وأفكاره ومخططاته. لعبة البوكر هنا يلعبها الرؤساء الثلاثة إضافة الى "الأركان الأساسيين" في السلطة، ببرودة أعصاب فائقة، فيما المدينة لا تزال ترفع أنقاضها وتدفن ضحاياها.
وكما يحتفظ لاعب البوكر بأوراقه قرب صدره ليحجب أيّ إمكان في معرفة اسرارها، هكذا يحتفظ الزعماء السياسيون في لبنان بأوراقهم قيد الكتمان. فعند تشكيل الحكومات مثلاً، يرفض كل واحد منهم إبراز مرشحيه للوزارة، قبل أن يعرف المرشحين الآخرين. ولا ينتاب أولئك الزعماء اي شعور بخطورة الأوضاع رغم تدهور الوضع الاقتصادي أو الكوارث التي يعيشها المواطنون، لا بل يثابرون على لعبتهم، واثقين من "قاعدتهم" التي لن تثور عليهم لأنها اعتادت أن تحصل في النهاية على فتات المغانم التي حصدها زعيمها على طاولة المراهنات.
 
لم ألعب يوماً لعبة البوكر، لكنني شاهدتُها مراراً في الأفلام السينمائية، ولطالما أخذتني بسحرها وغموضها وفنّها. فاللعبة، مبنية على استحواذ أفضل تشكيلة من الأوراق وزيادة المراهنات حتى يصل الجميع الى نقطة الفصل، أي الى كشف أوراقهم. عندها يظهر مَن كان فعلاً لديه الأوراق الأقوى ومَن كان يضلل الآخرين بقوته، فيخسر. وكم شهدنا من مسرحيات الخسارة هذه في لبنان، خلال الحرب وبعدها، من "زعماء" كانوا يضللون الشعب بقوتهم المفترضة، قبل أن ينكشفوا على واقعهم الهزيل، ولكن للمفارقة، ليسوا هم من كان يدفع الثمن، وإنما مناصروهم الذين يرددون: "بالدم بالروح نفديك يا زعيم". إلّا أن بعضهم أتقنوا اللعبة الى درجة عالية، فجنوا الأرباح من خلال المثابرة والحفاظ على رباطة الجأش، فتحولوا خلال عقدين من الزمن من مبتدئين في اللعبة الى متمرسين فيها، فأصبحوا مرجعيات يحتكم اليها. اللعبة هذه قد يربحها الفرد من خلال "البلف"، أي "Bluffing" وهو أن يخدع اللاعبين الآخرين بإعطاء الانطباع بأن لديه مجموعة رابحة من الأوراق، فيما تكون تشكيلته بالفعل فارغة. فإذا سقط الآخرون في خداعه ولم يثابروا في المزاد، ربح الجولة. 
 
تتجلى لعبة البوكر السياسية عندنا في كل مرحلة أساسية، من تشكيل اللوائح الى إنجاز التحالفات الانتخابية، الى تشكيل الحكومات وترتيب المحسوبيات في الوزارات. كل العمليات السياسية تخضع لقوانين لعبة بوكر اتقنها اللاعبون حتى تفاصيل جمع الأرباح وتصريفها ومن ثم تهريبها الى الخارج.
في لعبة البوكر هذه، يتم الاتفاق بين اللاعبين على توكيل أحدهم بلعب دور "أمين الصندوق". هو الذي يؤتمن على توزيع النقود الرمزية وعلى جمع ما يسمّى بالفائض المالي الذي يُقتطع من كل لاعب لبعض المصاريف الاستهلاكية. عادة، في لعبة البوكر، لا يختلف اللاعبون على مَن تُوكَل اليه مسؤولية أمانة الصندوق، أما عندنا، في لعبتنا السياسية المستمرة منذ نهاية الحرب، فالمسألة تأخذ بعداً آخر. إنها تتحوّل الى قضية ميثاقية.
 
هنالك بُعد آخر للعبة البوكر السياسية اللبنانية، يتجلى في التحالفات "من تحت الطاولة" بين لاعبين أو أكثر، هدفها إلغاء أحد اللاعبين وإخراجه من اللعبة. لكن هذا الأسلوب سرعان ما ينقلب على "المتحالفين" فيدّب الخلاف بينهم وتنكشف اللعبة. لكن بالرغم من انكشافها يعود اللاعبون الى المنوال ذاته، فالطاولة محجوزة باسمهم، ومَن أراد الانسحاب مرحلياً، انتدب أحد معاونيه لينوب عنه، وهذا المندوب هو في أكثر الأحيان الوارث الشرعي، أو الصهر! 
هكذا تستمر اللعبة...
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم