الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

العرب وأوكرانيا... قول للزمان ارجع يا زمان

المصدر: "النهار"
الرئيسان بوتين وماكرون في لقائهما الأخير قبل اندلاع الحرب الأوكرانية (أ ف ب).
الرئيسان بوتين وماكرون في لقائهما الأخير قبل اندلاع الحرب الأوكرانية (أ ف ب).
A+ A-
سمير التقي
 
في الرابع والعشرين من شباط  2022 انقسم العالم مرة أخرى إلى شطرين. وسيطول ذلك!

فبعد كل الإهانات التي تلقاها "القادة الأوروبيون"، تبيّن أن بوتين يلعب بهم ويضلّلهم، رغم كل ما كانوا يحملونه من تعهدات كادت تصل الى حد الإذعان والقبول بالجلوس إلى الطرف الآخر من الطاولة في مشهد أبعد ما يكون عن الاحترام.

لكن حقبة الرخاوة والغبطة الأوروبية سرعان ما أغلقت. ولقد أغلقها بوتين.

يعلمنا التاريخ، وعلى عكس حسابات بوتين، أن أوروبا لا تنقصها الشكيمة. لذلك يتجاوز الأمر النقاش في الأسباب والمتسببين، لينتقل إلى حقيقة جديدة تماماً.
 
لا شيء يوحد أوروبا كما فعلت روسيا. ففي عام 1946، وبعد سنتين من الرخاوة والغبطة الغربية بالانتصار على هتلر ووهم اضمحلال الصراع الأيديولوجي، وقف ستالين في عيد العمال ليقول إن الزمن هو زمن انتصار الشيوعية، لتصير الحرب على الإمبريالية العالمية المسؤولة عن مآسي العالم. والآن، يوحّد بوتين الغرب من جديد وكما لم يحلم أحد!

فبعد النفي الروسي المتكرّر، ليس فقط لسيادة أوكرانيا، بل لدول البلطيق، ووسط آسيا، تحت شعار القومية الإثنية الروسية، ها هو يفعلها ويقتحم أوروبا. وما كانت الإدارة الأميركية تعتبره مهمة ديبلوماسية وسياسية شاقة تحتاج لعقد من الزمن حتى تتمكن من استعادة لحمة حلف الأطلسي، ها هو بوتين يحقّقه في ساعات وبشكل منقطع النظير.

وبعدما كانت الطائرات البريطانية التي تنقل الأسلحة إلى أوكرانيا ممنوعة من الطيران فوق ألمانيا، جاءت انتفاضة النواب الشباب في البرلمان الألماني لتكسر مسار الدبلوماسية الألمانية. فلم تكتفِ ألمانيا بالقبول بالخسائر الاقتصادية الكبيرة لوقف مشروع "نورد-ستريم" بشقيه، بل قبلت بالانضمام لعقوبات "السويفت"، واضعة نصب عينيها احتمالات أزمة اقتصادية صعبة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة. بل ها هي ترفع موازنتها الدفاعية لتصبح الأكبر في أوروبا بما يعادل 2 في المئة من دخلها القومي، وها هي فنلندا، وها هي النمسا، بل وها هي السويد تلتحق بالتحالف لدرء بوتين.

في الرابع والعشرين من شباط 2022 تحوّل العالم، كما حصل غداة مقتل ولي عهد النمسا في سراييفو عام 1914. لقد انطبع منظر الدبابات والصواريخ الروسية تقتحم الأراضي الأوكرانية، لتحوّل أوروبا ساحة مكشوفة على المخاطر، في عقول الكبير والصغير.

وإذ يعلن الرئيس بوتين مراراً أن الصراع هو بين نظامين، النظام الليبرالي الديموقراطي الغربي ونظام الدولة الوطنية الذي يمثله نموذج الدولة الروسية، فلقد أعطى للصراع بعداً عقائدياً مستعصياً، بين "سلام بوتيني" وسلام أسّسه الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. بل لقد وضع بوتين روسيا، وليس الصين، في مجابهة كونية تماثل مجابهة الشيوعية مع النظام الليبرالي الدولي القائم ومنظومة الاقتصاد التي تولدت عنه في بريتون وودز 1954.

لكن الأمر الذي فاجأنا حتماً، هو أنه بفضل ما زرعه بوتين من مخاوف، حسمت الدول المتقدمة بوعي وحساب كاملين، موقفها ومضت بعيداً في تحضيرها لتحمل الأزمة الاقتصادية الصعبة، ليس فقط في مجال الطاقة، بل وفي مجال التضخم وأسعار الغذاء العالمي، لتتراكب فوق أزمة كوفيد. كل ذلك مقابل أمر واحد فحسب: درء بوتين.

لقد وُضعت روسيا عملياً، مرة أخرى، وراء الستار الحديدي لعقود! فلقد تعلم الغرب كيف ساهم تسامحه وانتهازيته مع الغطرسة البوتينية، وتراخيه في جورجيا، ثم القرم ثم سوريا الخ... في هذه الكارثة الأوروبية الآن. لذلك لا يفترض أن نخدع لا بالديبلوماسية ولا بالمفاوضات المفترضة، فالأزمة الأوكرانية ستبقى تقسم أوروبا.

بالنسبة الى الشرق الأوسط والبلدان العربية، سيكون الخيار بين النظام العالمي والقانون الدولي الراهن ومنطق القوة الذي يقترحه بوتين خياراً جوهرياً بالنسبة إلى مستقبلها. إذ يعلمنا التاريخ أن اختراق سيادة الدول في الشرق الأوسط كان أمراً دارجاً، ولم يؤدِ إلّا إلى كوارث استراتيجية تاريخية، هي التي أسّست للانهيار الراهن. ولا تزال الدولة الوطنية في الإقليم تتعرض لمخاطر كبيرة في تثبيت شرعيتها الداخلية والخارجية. لذلك فإن للدول العربية كل المصلحة في الوقوف مع تعزيز النظام والقانون الدولي.

بل وأكثر من ذلك، إذ يتحالف الغرب بأسره لوضع روسيا خلف الستار الحديد وإخراجها لسنوات من دائرة الاقتصاد العالمي، تطل بوادر "ربيع عربي" جديد. وفي حين لا تلعب دول الشرق الأوسط أدواراً رئيسية في الأزمة الروسية - الأوكرانية، إلّا أنها بذلك تبقى من هذه الناحية في قلب العاصفة.

تعتبر العديد من دول الشرق الأوسط نفسها حليفة للولايات المتحدة، لكنها، وفي زمن الرخاوة الأميركية والاسترخاء الدولي، فتحت محاور وتحالفات تكتيكية وتوافقات متنوعة مع روسيا في الإقليم. ولم تقصر في ذلك لا إسرائيل ولا تركيا ولا بعض البلدان العربية، حتى كاد بعضها يصل حد التحالف الاستراتيجي. لكن، وعلى اعتاب الأزمة الحالية، سرعان ما تنعطف إسرائيل وتركيا بشكل درامي يدعو إلى الاستمتاع.

يقول الديبلوماسيون الغربيون إنه يفترض بدول المنطقة بحكم تجربتها مع صدام حسين وحافظ الأسد، بل ومع إيران، إدراك مدى الحاجة إلى رد عالمي على الحرب الروسية ضد أوكرانيا "أفضل من أي دول أخرى"، وما يمثله السلوك الروسي من مخاطر على الوضع الهش للدولة الوطنية في الإقليم. فالكثير من دول الإقليم لا تزال دولاً حديثة، تكافح من أجل تثبيت شرعيتها وسيادتها في ظل نزاعات إقليمية وأطماع متفاقمة من أطراف متعددة. وفي حال تسييد منطق القوة، بدلاً، ستكون الدول الناشئة والحديثة بالذات هي الضحية الأولى في الشرق الأوسط.

الأهم من ذلك أنه في هذا الشهر، وبسبب تحولات وتطورات عديدة، أهمها تسريع إدارة بايدن علميات استخراج النفط والغاز، أصبحت الولايات المتحدة وكندا من جديد دولاً مصدرة للطاقة. وهي بذلك، تنظر الى أمن الطاقة العالمية وسوقها بشكل مختلف تماماً، أقل ارتباطاً بالشرق الأوسط، وليصبح النفط سلاحاً تساهم هي فيه. ومع التوقيع المقبل على الاتفاق النووي مع إيران، لا تعود ندرة الطاقة سلاحاً بيد روسيا. في ظل هذا الانقسام، وفي ظل تفكّك العولمة (Deglobalization)، تختلف الخيارات، ولا يعود من الممكن أن نقول إننا في الاقتصاد والديبلوماسية مع روسيا وفي التحالفات الأمنية مع الولايات المتحدة.

وعلى أعتاب عودتها إلى الاتفاق النووي، لم تلزم إيران نفسها بأيّ موقف، بل هي تنظر بشغف الى هذه اللوحة التي تفتح لها العديد من الفرص. وهذه ليست مجرد استنتاجات نظرية.

لقد انقلب في ساعات، وبلا عودة الوضع العالمي، وعلينا تحديد خياراتنا، إذ لن يعود الزمان إلى الوراء.
 
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم