الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

كورونا إذ يستكمل العبث بالعدالة الاجتماعية وبالنظرة اليها

المصدر: "النهار"
المشهد من طرابلس حيث المطالبة بالعدالة (أسبر ملحم).
المشهد من طرابلس حيث المطالبة بالعدالة (أسبر ملحم).
A+ A-
 
غسان صليبي

جَهَدَ العقل البشري لترتيب الاشياء بغية فهمها، فَهم ما يحصل في نفس الانسان وفي جسده، ما يجري في مجتمعه، وما يدور في فضائه، فطوّر العلوم، النفسية والطبية والاجتماعية والاقتصادية والفلكية، واستخرج منها علاقات وقواعد يستدل من خلالها الانسان على طرقات يسير على هديها، في حياة وعرة تبدو في معظمها عبثية. وهذا ما أعطى الانسان نوعا من الإطمئنان، بوجود مسلّمات ولو مرحلية، يسند اليها رأسه، ليهدئ قلقه الوجودي. وإذا بوباء كورونا يحل علينا فجأة ويعبث بمنطق الاشياء، الذي جهدنا كثيرا لبنائه. هو لم يضرب الانف والحنجرة والرئتين فحسب، بل طال العقل ايضا، الذي اصبح مترددا، مستسلما، وغير واثق من نفسه.
 
فقد جاءنا الوباء بالخوف وعدم اليقين. من عادة الخوف ان يولّد عدم اليقين، ومن عادة عدم اليقين ان يزرع الخوف. لكن كورونا أتانا بالإثنين معا ودفعة واحدة، وأفلتهما في دواخلنا ليتفاعلا بحرية قاتلة.
من الطبيعي ان يخاف المرء من الامراض، لكن العلوم الطبية قدمت معلومات حولها تمكن الانسان من ان يبني على اساسها علاقة مستقرة معها، محاطة بشيء من اليقين.
 
مع كورونا الامر مختلف. فأنت لا تعرف مصدره ولا طبيعته، ولا شيء مؤكدا حول طرق انتقاله بين البشر. عوارضه متنوعة وتأثيراته تبدأ باللاشيء لتنتهي بالموت. وإذا التقطه المرء وشفي منه، لا احد يطمئنه بالكامل حول اكتسابه المناعة ضده، وحول مدة هذه المناعة. الادوية مشكوك في فعاليتها، واللقاحات لا تزال تجريبية، وتُطرح في شأنها اسئلة مصيرية بالنسبة لنوعية الحياة بعدها.
البعض يعزو كل هذا الغموض الى حداثة الفيروس، وحاجة العلم إلى وقت إضافي لتوضيح الامور. البعض الآخر يعتبر ان هذا الغموض مقصود من طغمة رأسمالية عالمية، تريد استخدام الفيروس للمزيد من السيطرة على العالم وعلى البشر.

لست في موقع علمي او استخباراتي لمناقشة هذه الفرضيات بدقة. لكني سأتوقف عند ما كتبه كلاوس شاب، احد مؤسسي "منتدى دافوس"، المؤتمر السنوي العالمي الذي تعقده النخبة الرأسمالية العالمية في مدينة دافوس في سويسرا لبحث الاتجاهات الاقتصادية العالمية. فقد اصدر كتابه "كوفيد- ١٩ إعادة الضبط والتشغيل الكبرى"covid-19 la grande reinitialisation ، في النصف الثاني من سنة ٢٠٢٠، اي بعد تفشي جائحة كورونا واتضاح انعكاساتها على المستويات الديموغرافية والنفسية والاجتماعية والاقتصادي، الذي يُقِرّ فيه بأن جائحة كورونا هي الاقل فتكا من بين الاوبئة التي عرفتها البشرية منذ الفي سنة، لكنه يعتبر ان الجائحة ستحدث تغييرا جذريا في العالم، وسيستمر إلى أجيال.
 
ما يعرضه شواب هو كيفية الافادة من كورونا لإطلاق مسار جديد يساعد الرأسمالية المعولمة على تخطي أزماتها. وهذا المسار يفترض دورا اكبر للحكومات وتوجيها أكثر صرامة للاقتصاديات وللسلوكيات البشرية.
لا يمكن المرور مرور الكرام امام كتاب بهذه الخطورة، صادر عن احد المؤثرين الكبار في السياسات الاقتصادية العالمية. ليس من الضرورة بالطبع تصديق ما يطرحه من مسار متجدد للرأسمالية، ولا يعني ان هذا الطرح لن يلقى معارضة بدأت تتنظم، لكن الكتاب من دون شك هو دفع نفسي لتقبله والعمل في اتجاهه.
 
لكأن بالرأسمالية الغربية، بدأت تميل الى تقليد النظام السياسي الصيني، بعدما قلّدها هو على المستوى الاقتصادي. فحتى يستطيع النظام الشيوعي الديكتاتوري الصيني منافسة الرأسمالية الغربية، كان عليه اعتماد ما يسمّى برأسمالية الدولة. وها هي الرأسمالية الغربية تعمل ربما بدورها على تقليد الصين من اجل منافسته، عبر تقليص مساحة الديموقراطية والحرية وإعطاء صلاحيات قانونية واسعة للسلطات السياسية، بحجة ضبط تأثيرات كورونا الصحية.
 
فلنغض النظر قليلا، عن اسباب هذا التأثير الغامض والكبير لكورونا، أكانت اسبابا مبررة علميا او مفتعلة، ولننظر الى هذه التأثيرات الخطيرة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي.
المرجع الاهم في هذا الموضوع من حيث الاحصاءات هي منظمة العمل الدولية. فلنلاحظ اولا ان مديرها العام غاي رايدر يؤكد ان "عواقب الوباء ستستمر على المدى البعيد وهناك الكثير من التقلبات والغموض في شأن المستقبل". وهذا يلاقي ما توقعه شواب وإن من منطلقات مختلفة. وكانت المنظمة قد اصدرت تقريرها السنوي حول الاجور في العالم، الذي اشار الى ضغط تنازلي على مستوى او معدلات نمو متوسطات الاجور في ثلثي الدول التي توفرت بيانات حديثة في شأنها، وان هذا الضغط التنازلي مرشح للاستمرار. وكذلك طالت الازمة بشكل اعنف الاجور المتدنية والحد الادنى للاجور، فزاد التباين في الاجور بين العمال في معظم البلدان. مع العلم ان النمو في مجمل الاجور في السنوات الاربع التي سبقت كورونا، تراوح بين ١.٦ و ٢.٢ في المئة.
 
وقد افادت منظمة العمل الدولية في تقريرها السابع المخصص لآثار الوباء في عالم العمل، انه في سنة ٢٠٢٠، اي في زمن كورونا، تمت خسارة ٨.٨ في المئة من ساعات العمل في العالم، ما يعادل ٢٥٥ مليون وظيفة بدوام كامل. فيما اشارت تقارير أخرى إلى ان واحدا من اصل ستة من فئة الشباب اصبحوا عاطلين عن العمل، وأن تأثيرات كورونا طالت النساء أكثر من الرجال في عالم العمل.
 
الى جانب تزايد معدلات الفقر والبطالة، تشكل جميع هذه المعطيات تحديا كبيرا امام اي مسعى لتأمين العدالة الاجتماعية في العالم أجمع. والمشكلة لا تكمن فقط في الامكانات والوسائل المتاحة، بل في تبدل النظرة الى اللامساواة الاجتماعية نفسها، قبل وباء كورونا وبعده.
 
 
قبل كورونا، وبعدما كانت العدالة الاجتماعية مع بدايات الرأسمالية تعني إعادة توزيع عادلة للثروة، اصبح التركيز مع انتشار السياسات النيوليبيرالية، على تأمين العمل اللائق والحد من الفقر، بغض النظر عن عدالة توزيع الثروة. وكأن المشكلة انتقلت من النظام الرأسمالي نفسه كسبب رئيسي لللامساواة، الى السياسات الاقتصادية ونتائجها على الطبقات الدنيا.
 
بعد كورونا، لم تعد المشكلة مقتصرة على اتساع حجم اللامساواة بشكل غير مسبوق، بقدر ما اصبحت، بتصدر فيروس غامض، لائحة العوامل التي تؤدي الى هذه اللامساواة.
لم نعد نواجه الرأسمالية ولا النيوليبيرالية ولا السياسات الاقتصادية بما فيها السياسة الضرائبية او سياسة الاجور او تلك المتعلقة بالخدمات العامة وموازنتها ونوعيتها وشموليتها. نحن نواجه فيروسا طغى على العوامل الاخرى وإن كان يؤثر من خلالها على الوضع الاجتماعي الاقتصادي. المصيبة الكبرى، ان العلم لم يتمكن بعد من تحديد المقاربات الفضلى لمواجهته، وبقيت قضايا كثيرة متعلقة به غامضة. والمطلوب منا تقبل كل ذلك.
 
كيف نعالج الفقر والبطالة وتدني الاجور واتساع حجم اللامساواة في هذه الحال؟ منظمة العمل الدولية والاتحاد الدولي للنقابات والاتحادات الدولية القطاعية والنقابات الوطنية تقدمت باقتراحات للتخفيف من انعكاسات كورونا، لكنها تقف جميعها عاجزة عن التحكم بمسار العامل الاول الذي يتسبب بهذه الانعكاسات، اي الفيروس نفسه.
الفئات المتضررة من اللامساواة الاجتماعية، وخاصة الفقراء والعاطلين عن العمل والعمال، يستطيعون تقليص سلبيات النظام الرأسمالي او النيوليبيرالية او السياسات الاقتصادية، لكن هامش تأثيرهم على العامل الاهم في تفاقم وضعهم المعيشي حاليا، اي كورونا، يبدو ضيقا جدا، ولا سيما في ظل الغموض الذي يكتنف كل ما يتعلق بالفيروس.
 
يضيق هامش التأثير اكثر لدى الفئات المتضررة، عندما نلاحظ ان الاتحادات النقابية، العالمية والمحلية، ومنظمة العمل الدولية، لا ترى سبيلا للحد من تأثيرات كورونا الاجتماعية، الا من خلال حوار اجتماعي ثلاثي، يضم الدولة واصحاب العمل والعمال. وهذا طرح منطقي، في ظل عدم تناسب المعالجات القطاعية المنعزلة مع شمولية هذه الازمة، والحاجة الى تضافر كل الجهود لابتكار سياسات على المستوى الوطني تخفف تداعياتها.
 
لكن في اطار هذا الحوار الثلاثي، تبدو النقابات ضعيفة، وخصوصا بسبب البطالة وتناقص عضويتها وعدم قدرتها على الضغط على مستوى القطاعات. كذلك يقف اصحاب العمل عاجزين عن مواجهة الانهيارات القطاعية بدون دعم من الدولة، مما يعطيها، أي الدولة، بالمقارنة مع الطرفين الآخرين، نفوذا اكبر في المفاوضات ومجالا اوسع للتحكم بقرارات الحوار الاجتماعي الثلاثي الطرف. الدولة تحتكر حق التقدير والتوقع في ما يتعلق بفيروس كورونا، إما عبر الحكومة ووزارة الصحة، وإما عبر منظمة الصحة العالمية، التي اصبحت على ما يبدو تتبوأ مكانة ارفع من مكانة منظمة العمل الدولية، في مجال تحديد علاقات العمل. لقد تعودنا على القبول بقرارات الدولة في ما يتعلق بالحجر المنزلي والتباععد الاجتماعي، وسيكون اسهل علينا في المستقبل تقبل قراراتها في إطار الحوار الاجتماعي.
 
هذا كلّه يطرح على الحركات النقابية الدولية والمحلية، مسؤولية ابتكار استراتيجيات جديدة للمواجهة، بدل الاكتفاء بتجميع المعلومات حول انعكاسات كورونا، او الدعوة للحوار الاجتماعي.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم