الكتابة في خطر الرقمنة
*جلال قناص
شهدت السنوات الأخيرة طفرة هائلة في تقنيات الذكاء الاصطناعي ، خاصةً نماذج اللغة التوليدية (Generative AI) مثل "تشات جي بي تي"، التي أصبحت قادرة على إنتاج نصوص متماسكة، إبداعية، وخالية من الأخطاء النحوية واللغوية في ثوانٍ معدودة.
بينما تُعتبر هذه الأدوات ثورة تكنولوجية تعزز الكفاءة وتوفر الوقت، يكمن في استخدامها المفرط خطر كبير يهدد أسس التطور المعرفي البشري، وتحديداً مهارات الكتابة والفكر النقدي. إن الاعتماد الأعمى على الآلة لتحل محل العقل في هذه العمليات الأساسية قد يؤدي إلى تدهور تدريجي في قدرات الأجيال الصاعدة على التعبير بفاعلية والتفكير بعمق.
تآكل مهارات الكتابة الأساسية
تُعدّ الكتابة أكثر من مجرد وسيلة للتعبير؛ فهي عملية معرفية تساعد على تنظيم الأفكار، وصقل الحجج، وتوضيح المفاهيم المعقدة. تتطلب الكتابة الجيدة جهداً عقلياً يمر بمراحل متعددة بدءاً من العصف الذهني وجمع المعلومات، مروراً بالصياغة الأولية والتنقيح، وصولاً إلى التدقيق اللغوي والأسلوبي.

يُشجّع الذكاء الاصطناعي على تخطي هذه العملية الجوهرية. فعندما يعتمد الطلاب والكتّاب على الذكاء الاصطناعي لإنشاء المقالات والتقارير أو حتى رسائل البريد الإلكتروني، فإنهم يحرمون أنفسهم من الممارسة الأساسية التي تطور مهاراتهم اللغوية والتركيبية.
• التبعية والتكاسل الذهني: يميل المستخدم إلى الاعتماد الكامل على النص الجاهز الذي تنتجه الآلة، ما يؤدي إلى ظاهرة تُعرف بـ "التفريغ المعرفي"، حيث ينخفض الجهد العقلي المبذول.
• ضعف الهيكل والأسلوب: عندما يقتصر دور المستخدم على إدخال أمر برمجي (Prompt)، فإنه يفقد فرصة تعلم كيفية تنظيم الأفكار بشكل منطقي ومقنع. هذا يقلل من تطوير الأسلوب التعبيري الخاص به، وينتج نصوصاً تتسم بالنمطية والتجانس.
• فقدان الدقة اللغوية والذوق الأدبي: بالرغم من قدرة الذكاء
الاصطناعي على تصحيح الأخطاء، فإن عدم ممارسة الكتابة يضعف حساسية المستخدم تجاه الفروقات الدقيقة في اللغة، ويقلل من إتقانه الواعي للنحو والصرف، مما قد يؤثر سلباً في التعبير في السياقات التي لا تتوفر فيها أدوات الذكاء الاصطناعي.
تراجع وتجانس في الفكر النقدي
إن العلاقة بين الكتابة والفكر النقدي علاقة وثيقة. فالكتابة هي الأداة التي نستخدمها لـ اختبار وتقييم أفكارنا وحججنا. إن عملية وضع فكرة معقدة على الورق تجبر العقل على تحليلها، وتفصيلها، والدفاع عنها أمام القارئ، بما في ذلك الذات.
يهدد الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي هذه القدرة على التفكير النقدي من عدة جوانب:
• الثقة المفرطة وتقبل النتيجة: عند استخدام الذكاء الاصطناعي للحصول على تحليل أو حل لمشكلة، يميل المستخدم إلى قبول مخرجات الآلة دون تدقيق أو مراجعة نقدية. وهذا يقلل من مهارة التحليل، والتقييم، والاستدلال، وهي المكونات الأساسية للتفكير النقدي.
• التجانس الفكري: تعتمد نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي على بيانات موجودة مسبقاً، لذا تميل مخرجاتها إلى أن تكون محايدة ومتجانسة، وتمثل في الغالب الاتجاهات السائدة. هذا يقلل من فرص ظهور الأفكار المبتكرة، أو وجهات النظر المختلفة، أو التفكير خارج الصندوق، ما يؤدي إلى تراجع الإبداع ومرونة الحلول.
• ضعف تقييم المصداقية: في الماضي، كان البحث عن المعلومات يتطلب التنقل بين مصادر مختلفة وتقييم مصداقيتها. أما الآن، فإن الذكاء الاصطناعي يوفر إجابات جاهزة ومختصرة، مما يعطل هذه العملية. يصبح المستخدم متلقياً سلبياً للمعلومة بدلاً من أن يكون باحثاً ومُحللاً، وتقل قدرته على اكتشاف المعلومات المضللة أو الأخطاء التي قد تكون مضمنة في مخرجات الذكاء الاصطناعي.
الحاجة إلى إعادة صياغة التعليم والتعامل
لا يمكن إيقاف عجلة الذكاء الاصطناعي، لكن يمكن إعادة توجيه استخدامها. يكمن الحل في توازن بين الاستفادة من كفاءة هذه الأدوات والحفاظ على الاستقلالية المعرفية.
يجب على المؤسسات التعليمية والمستخدمين تبني نهج يركز على:
• التعامل النقدي مع مخرجات الذكاء الاصطناعي: يجب تعليم الطلاب كيفية تحدي نتائج الذكاء الاصطناعي، واستجوابها، والبحث عن مصادرها. واعتبارها مجرد مسودة أولية تتطلب جهداً بشرياً كبيراً في المراجعة والتطوير.
• التركيز على العملية لا المنتج: يجب أن تتوجه المهام التعليمية نحو تقييم عملية الكتابة والتفكير (مثل العصف الذهني، المسودات الأولية، سجلات المراجعة) بدلاً من التركيز على المنتج النهائي فقط.
إن الخطر الحقيقي لا يكمن في وجود الذكاء الاصطناعي، بل في الاعتماد السلبي عليه. يتوجب علينا أن نتذكر أن التفكير النقدي والكتابة هما تقنيات للتنمية الفكرية، ولا يجوز التفريط فيهما. لضمان مستقبل إبداعي ومفكر، يجب أن يظل العقل البشري هو المحرك الأساسي، والآلة مجرد أداة مساعدة لا بديل.
*الدكتور جلال قناص، أستاذ الاقتصاد في جامعة قطر
نبض