شريف مجدلاني سُقيَ الرواية من النّبع، وغيرُه من المصبّ
في دفق الموسم الأدبي الفرنسي الجديد لهذا العام، والروائي خاصة، شعّت رواية الكاتب اللبناني باللغة الفرنسية، شريف مجدلاني، دُرّةً لامعةً وسط مجموعة بلغت خمسمائة وأربعين رواية بين فرنسية ومترجمة، طريقُ سباقها للتعريف والبروز والرواج، ثم بعد ذلك، ولأجله، إقناع لجان تحكيم الجوائز الأدبية المرموقة في فرنسا، طويلٌ ومحفوف بالأشواك والصّعاب. تخطت رواية مجدلاني"Le Nom des Rois" أغلبها؛ اختارتها لجنة جائزة غونكور الأرفع للرواية في فرنسا من بين عشرات ضمن قائمتها الأولى (تضمّ 15 كاتبًا) منهم أسماء وازنة وراسخة أبرزهم إمانويل كارير. ثم تأهّلت في القائمة الثانية المميزة ما قبل الأخيرة للجائزة التي تُحسم بإعلان الفائز كما هو تقليدها في الرابع من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر كلّ عام.
هو ذا شريف مجدلاني حاضرٌ بقوة وجدارة وسط لفيف من أفضل الروائيين الفرنسيين في غَلّةِ 2025، لهم وله معهم غلالٌ وثمار ناضجة. يبلغ حصاده عشر روايات بدءًا من سنة 2005 بـ"Histoire de la Grande Maison" مرورًا "Villa des femmes" سنة 2005 التي فازت بجائزة جان جيونو، و"Dernière Oasis" سنة 2021، قبل الرواية الأخيرة التي حظيت بتقدير لجنة لو غونكور وتضع مؤلفها في مكانة مرموقة بين أنداد في عقر دارهم، ولبنانيًا من الكتاب الفرنكفونيين البارزين، وإن كان لي رأي في هذا التصنيف المسبق الذي يحبس كاتبًا في حدود لغة تعبيره سلفًا، وهو متشبّعٌ بتاريخ وموروث ومحتد وطبيعة ومجتمع بلد لغته أخرى تتنفّسها في عوالمه ومن أعطاف شخصياته، وبحكم الانتماء الجذري لها ومحيط عيشها وأفقه. عندئذ تصبح اللغة أداةً للتعبير والعبور نحو ما هو أرحبُ وأغنى وأكثرُ تعددًا وتنوعًا وأبعادًا.

وككلّ الكتّاب، هو ابن بيئته، ابنُ لبنان الكبير، بمكوناته العرقية والحضارية واللغوية والعقيدية المذهبية، وبتاريخه التأسيسي المتجدد لكيانه المنفتح على الثقافات واللغات المتوسطية وعلى العالم بحكم هجرات أبنائه، والذي عاش في زمنه الحديث - وما يزال - صراعات عنيفة وانقسامات من كل لون، كان قبلها مرتع الديموقراطية والحريات والتيارات الإيديولوجية والفكرية والإبداعية الطليعية في العالم العربي، والمدخل الأول للحداثة الغربية إليه عبر أزمنة وأجيال. شريف مجدلاني ابن متأخّر من هذه الأجيال، هو سليل بلاده، فولدت روايته على الجملة من رحمها، بالأحرى من فوهة بركان نُذُر وإرهاصات القلاقل والعنف الذي سيجتاح لبنان منذ مطالع السبعينات وينفجر في التاريخ المشؤوم في ربيع 1975. على عتبات هذه السنين كان بطل رواية "Le Nom des Rois" (اسم الملوك) في سن اليفاعة، ابن أسرة موسرة أبوه تاجر يملك مخازن أثواب في سوق بيروت، ويعيش مع أهله وأقاربه وزملائه التجار عيشة رخاء واستمتاع، موصوفةٍ بالحفلات والسهرات العائلية والخارجية وجلسات القمار بين الكبار والاصطياف في مسابح المدينة الفخمة ومنتجعات الجبل، يكتفي الكاتب بأسماء الشخصيات الكبرى الفاعلة علامةً على نَسبها وديانتها منها مثلًا ريمون الأب، وإيلي الطويل، وكفوري، لنعرف أنها عائلات مسيحية وفي علاقاتها وأجوائها ومناخها العام من البداية، زمن السلام، إلى ما بعد الانفجار، هناك نسيج اجتماعي وطبقي واحد، إليه ينتمي بطل الرواية وعنه يصدر.
يوجد إخلاصٌ وتلقائيةٌ في هذا التوصيف والتصنيف ضمن مجتمع كان متآلفًا ومتعايشًا قبل محنته الكبرى. بيد أن التلميذ اليافع اختار مجتمعَه ومعيشَه الخاصين، بهما تتشكل فرديتُه وخصوصية الرواية، بانغماسه في قراءاتٍ لتاريخ الملاحم والبطولات الفروسية وسلالات الملوك، يتعقّبها في كتب وقواميسَ نادرة، ويسعى إلى معلوماتها عند خبراء بها، يقتفي آثار أمجادٍ خلت، في شبه انفصال تام عن واقعه وحاضره إلا ما وجب؛ دون كيخوطي صغير. ما يسرده مجدلاني بنيةٌ خيالية تسندها الحقيقة متمثلةً في أن البطل اليافع سيتعرف على تلميذ طارئ على صفّه هو فعلًا ابن ملك مخلوع لإحدى الجزر ويصبح عضوًا في حلقة الأصدقاء الذين يتجاوب معهم إيجابًا وسلبًا بين اغترابه في زمن القراءة الملحمي، والتّماس بالحياة الخام. تتراوح الرواية بين سرد ذات، وسرد أنا (نحن) عائلية، اجتماعية متجانسة، تجارية مهنية. قطبان متباعدان ومتوازيان في آن، وينجح السارد في صنع استقلاليتهما بهندسة دقيقة وحياد عاطفي شديد التقشف في التصور والصورة واللغة ضامنًا للبطل السارد نفسه بؤرته المركزية.

ينزل الفتى من سماء الخيال وتحدث القطيعة تدريجيًّا مع زمن البراءة بتساوق مع خروج الحِمَم من البركان اللبناني، يمهد لها بنشوب معارك، بتوترات، يتجاهلها ويغفل إلى أن تهز المدافع أركان المدينة ويقتتل أبناء الوطن الواحد وحلفاؤهم وتدخل البلاد أتون الحرب الأهلية في التاريخ المعلوم. ترحل الأسرة شأن عائلات كثيرة إلى الملاذات الجبلية، هنا حيث يواصل الفتى الذي يكبر بعض أوقات ونزوات المراهقة دون انفصال تام عن أحلامه السابقة وإن أيقن أن القطيعة تحدث أمام عينيه لم يعد التاريخ في البطولات الملحمية التي يهوى ولكن قبيحًا جدّاً. ما حدث بعد ذلك معلوم، موثق وموشوم في ذاكرات اللبنانيين، دموي ومقزز وتراجيدي، المهم فيه، من الناحية الأدبية، كيف تم ويتواصل ما سُمّي "الحرب الأهلية" في الرواية اللبنانية التي بنيت كلها على فواجعها وآثارها. أزعم أني قرأت أغلبها وما يتصل منها، أراها بعد ثلاثة عقود على شبه انتهائها ما تزال كثيفة التمثيل في نصوص كتابها. أغلبها غارقة في التفجع وتعزف نبرة مأسوية بكائية، حبيسة اللواعج الذاتية الضيقة فجاءت أقرب إلى المرثيات بنثريات شعرية متكلفة. كتابة ردّ الفعل والانفعال لا الصدى العميق بأناة وتبصّر وقد التأم الجرح نسبيًا. الرواية تُكتب بعد الطوفان وانطفاء الحريق. هذا ما سعى له شريف مجدلاني في روايته. سردَه على نسق، وبنوع السيرة الذاتية، مع دمجها في سياق مجتمعي موضوعي وبتباعد محسوب كما لو يراها في مرآة صقيلةٍ أمامه، قد ازدوجت في ذاته أنا وآخر، داخل وخارج، هكذا تكون روائيًّا.
ليس في" اسم الملوك" نحيب ولا نديب فجائعي، كما في أغلب الروايات العربية. هنا سرد بارد محكم الحبك، ولغة ميسّرة بلا تطريز، بقلم متمكن من أدواته، فهو أستاذ للأدب، ويعي موضوع وصنعة الرواية. قدّم لنا عقدة مزدوجة تقاطع فيها الخيال والواقع، وصراع المثال والحقيقة الفجّة، فصنع الفرق بلا بكاء ولا غنائية رثة، وباطِّراح تام للقاموس الشعاري الفجّ. عندي، لا غرابة أن يحوز هذه الميزات، فهو مَتَحَ فنّ الرواية، كما يبرهن عمله الأخير وما سبقه، من أصولها، وفي قلب ثقافتها، وبارتباط وشيج بمحيطها، فكتب وسُقيَ من النبع، والرواية الغربية هذ النبع بدون جدال، بخلاف مَن يكتب ويشرب مِن المصب، شأن مَن يكتبها بالعربية، وشريف مجدلاني لبناني عربي قد جمع في روائيته الرصينة الناضجة الحُسنيين.
نبض