الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

سجّل يا تاريخ

المصدر: النهار - بسكال لوقا
أبشع من هذه الأحداث التي تمرّ منذ 1975 لن تستطيع أن تُسجّل
أبشع من هذه الأحداث التي تمرّ منذ 1975 لن تستطيع أن تُسجّل
A+ A-
أبشع من هذه الأحداث التي تمرّ منذ 1975 لن تستطيع أن تُسجّل... ما أصعب قراءة صفحاتك في المستقبل... صفحات دموع وقهر وحيرة ومرارة وعدم حيلة... سجّل وأرجوك أن تتعب قليلاً وتهدأ لأنّ الدموع نَشفت، ولن تستطيع أن تتساقط على أوراقِك لتمحوَ أخباراً خَطّتها الأيام السوداء التي قرَّرتْ ألّا تنتهي... صفحاتك أصبحت وقحة وكلّ شيء أصبح واضحاً... اِخْجَل يا تاريخ وارحم الشعب والوطن. وإذا كان لا بدّ لك أن تسترسل عليك بهم (هؤلاء المتسلطون)، ولا تكن عادلاً...
صفحاتك سيخجل منها الزمن... هذا الزمن الذي يطمح أن يرتاح قليلاً لِيَهِبَكَ صفحات أجمل، ولكن دعه يبدأ من جديد... هذا الزمن الذي يصرخ "كلّن يعني كلّن وأنت واحد منّن" لأنك تُشبِهُهم... ألم تضجر من الترداد... ألم تضجر من المآسي التي ترسمها على صفحاتك بأحطّ الكلمات... ألم تُصب بالغثيان حين ترى بشاعة إنجازاتهم...ألم توجعك أقدام من مرّوا على صفحاتك ليهربوا منك ويستقرّوا في تواريخ أخرى مُجبَرين.... ألم تؤلمك الأصوات الصامتة والمدوّية لضحايا سافروا مرغمين إلى تحت التراب... ألم يصرعك نحيب الأمهات وأنين المشوّهين والجرحى الذين تقاعدوا قسراً ومن دون أجر أو تعويض... لقد أنهكوك وأصبحت رهينة أنت أيضاً لتؤرّخ جشعهم.
نحن حاولنا مراراً بأن نُمَزّقَ صفحاتك الحمراء المُلَطّخة بِدَمِ الضّحايا منذ عقودٍ لِنُحَرِّرَك فرأينا سجننا فيك... هذا السجن الذي يكبر، والصفحات تُولِّد صفحات وسخة متشابهة ومتكرّرة تُؤرِّخ لأبشعِ حَقبَةِ انحطاطٍ عَرَفَتْها صفحات التاريخ...
بِتنا في دَوَّامَةِ وقاحتِهِم مُنهَكين، ظُهورنا مَكسورة ولا من مُتَّكئ... رأينا الأرض تعلو، فخجلت عينانا لأننا لم ننجح في الحفاظ عليها، وحين لامسناها علمنا كم أنّ رؤوسنا أصبحت مطأطأة، وإلى أيّ درجة انحدر مستوانا... هاجرنا... تركناها... فأشارت أنّها في انتظارنا وفي انتظار هاماتنا مرفوعة...
أحزن على شباب يانع وَثقَ وأحبّ ما روينا له من ذكريات جميلة عشناها نحن... وأيقن بأنّه سيعيش أجمل منها ليقصّها على من سيأتي بعده من أجيال... لكن، يا تاريخ، ما سيرويه محزن ومبكٍ... هذا إن كان يستطيع أن يرويه... أعتقِدْ بأنّه لن يروي شيئاً... أهي ذكريات تُروى... أحلامهم لن تكون وردية بل رمادية... فكتاباتك تتكلّم... من سيأتي بعدهم، جيل سيولد في الاغتراب وسيكون له تاريخ آخر ارتداه عُنوةً لحمايته... وجيل آخر بقي ليكتب، إن بقي على قيد الحياة، مأساة عاشها أهله وتتجدّد معه...
أحزن على أطفال سُرِق الفرح والحلم من أعينهم فقَسَت نظراتهم... نظرات خائفة محتارة تعبّر عن مستقبل غير مرسوم... سلبوا منهم لعبهم لنجدهم في الشوارع باحثين عن لقمة العيش، لا أدري ما هي مناماتهم... أطفال لم تذق طعم الإنسانية.
من سيقرأ صفحاتك في المستقبل، يا تاريخ، سيتصبّب عرقاً لفداحة ما سيقرأه... كلّ صفحة فيك تنزف ذلّاً... ليس فيها أيّ بصيص نور.... كفاك غطرسة وعنفاً... قف وتمرّد قليلاً فالشعب والوطن لم يعد بإمكانهما التحمّل أكثر... قل بربك متى ستشبع؟ وبكم مُجلّد تريد أن تستفيض؟
سأعطيك الخيار بأن تنتقي عناوين مؤلّفاتك: قاتل الأطفال، مشرّد المسنين، سارق الأحلام والكرامة، رفيق المجرمين، الصمت المنتحر، مغتصب الحريات، ناشر الحقد، منتهك العدالة.... مدمّر الوطن... السلطة وآفاتها.....
سجّل يا تاريخ فنحن شهود على ذلك...

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم