الديموقراطية والأصوليّات
Smaller Bigger
جواد الساعدي
 
أنسَتنا الميليشيات الطافحة والأصوليات الخارجة من مجارير الماضي طغيان الأنظمة القمعية. لم نعد نفكر في الحرية السياسية ولا في تكافؤ الفرص والعدالة أو المضامين الاجتماعية الأخرى للديموقراطية. صرنا نفكر في الأمن والخبز والكهرباء ووفرة الدواء والوقود المدعوم، أو غير المدعوم، وانتظام عمل المستشفيات وارتفاع سعر الدولار وانخفاضه وأسباب اندلاع الحرائق وضحاياها وإمكان تفاديها واطفائها، وفي خدمة انترنت مستقرة واتصالات هاتفية مقدورٍ على دفع ثمنها مثل كل شعوب العالم، كي نستطيع الاطمئنان على أحبابنا إذا وقع انفجارٌ أو اندلع حريقٌ أو أيُّ حادثٍ أمنيٍّ آخرَ وهم في الطريق، وكي نستطيع التحدث قليلًا مع من تركوا البلاد بفعل القمع وانعدام الأمن والحريات وامتنعت عليهم العودة فاستقروا في مغترباتهم؛ ذلك حتى كادت أحلامنا لا تتعدى إلى السكن الملائم والشوارع المبلطة ونُظم المواصلات الحديثة والمتنزهات والمسابح والمدارس النموذجية ومناهجها التي ينبغي أن تكون عصرية، ولا إلى التأمين الصحي أو التأمين ضد البطالة ومكافحة الفقر والتمييز الطبقي والاجتماعي وحماية الفئات الضعيفة من تعسف الفئات التي تمتلك وسائل السلطة أو تحتمي بها.
 
صار الماضي القمعي الديكتاتوري الرجعي "جميلًا" وأضحت العودة إليه أُمنيةً للكثيرين، وذلك بفعل الواقع الميليشيوي القبيح، المهدِّد للحياة وكل ما نحلم به من جمالٍ وفنٍّ وشعرٍ وغناءٍ وموسيقى وذوقٍ وسلوكياتٍ تليق بالإنسان كقيمةٍ أساسية على الأرض، ومن قوانينَ تصون حريته وكرامته وحقه في العيش في مجتمعٍ آمن دون استغلالٍ وتمييزٍ أو عَوَز.
 
كنا نجادل بالتاريخ وما تركه لنا من شواهدَ وآثارٍ تدل على أمكان نهوضنا وارتقائنا إلى مستوياتٍ معاصرة، فصار التاريخ يرد علينا بما فيه من رواسبَ يُمكنها أن تطمرَ مساحة الحلم وتخطفَ الواقع الرديء لتذهبَ به إلى ما هو أردأ.
 
الأصوليات الدينية
الأصوليات الدينية المسلحة بفكرة الحق المطلق والعصمة والاتصال بالغيب، تقاتل من أجل الهيمنة على الحاضر لترث الماضي دون أن تلتفت إلى المستقبل، فالحياة لديها مرورٌ عابرٌ لا يستحق العناءَ ولا يتطلب من سالكيه الاعتناء، وعلى هؤلاء أن يؤمِنوا بما كتب الله لهم من فقرٍ وعوز، وبما كَتَب لغيرهم من استيلاءٍ على الموارد والثروات، سواءٌ أكان هذا بالفساد أم بقوة السلاح أم بغير ذلك.
 
يدّعي بعض هذه الأصوليات التزامه التداول السلمي للسلطة وينخرط في بعض مظاهر الديموقراطية للاستيلاء على جوهرها وحرفها في اتجاه الهيمنة على الدولة، فالديموقراطية لديه ليست سوى مضمونٍ عددي لا يتجاوز عدّ الأصوات لتشكيل أغلبية أصولية ترتكز على خزين فكري من التسلط والطغيان والعنف المشَرعن في الينابيع، ويرى هذا البعض الديموقراطية في الجوهر صناعةً غربية يُراد بها الاستعمار وتخريب المجتمعات وإفساد العبادات وزعزعة الطاعات. تلجأ الأصوليات إلى الديموقراطية الانتخابية أيضًا لإظهار حجمها إزاء شقيقاتها من الأصوليات الأخرى التي تنافسها في طريق الهيمنة على المجتمع والسلطة، ولتتجنب الصدام معها في مرحلةٍ لا تقتضي الصدام، فهي تؤمن بفكرة التغلّب، تحمي التوريث الدنيوي وتحتمي به، وإذا اشتكت منه تحاربه بالتوريث "المقدّس"، تبتدع الفتاوى لشرعنة طغيان الحاكم وتخترع الحِيَل الشرعية لتبرير ما تريد، حتى وإن كان خروجًا عن المنظومة الأخلاقية للدين.
 
تقمع الأصوليات الدينية النساء وتحرمهن أبسط الحقوق، تعتدي على حقوق الأطفال ولا تعترف بالمنظور المعاصر للتربية، تجند الشباب اليافعين في ميليشياتها المسلحة وتحرمهم من النمو في بيئة صحيحة تتفتح فيها مواهبهم وتنطلق منها طاقاتهم الشبابية في مسارٍ نفسي وعقلي سليم ينبذ العنف والتطرف والانغلاق الديني والمذهبي، ويؤمن بقدرة الإنسان وحقه في استخدام عقله استخدامًا حرًّا مستقلًّا لا يخضع لقوالبَ جاهزةٍ يصنعها له آخرون.
تفتقر الأصوليات المنخرطة ظاهريًّا في العملية السياسية الديموقراطية إلى الشفافية التي هي شرط لازم لكل نظامٍ أو مجتمعٍ ديموقراطي، ذلك لأنها تُعِدُّ نفسها في الآن ذاته لحروب الاستيلاء والهيمنة والتخلص مما تراه "صناعةً غربية"، ولا تقبل بأي شكل من الأشكال أن تكون، ولو بدرجة قليلة، مكشوفةً أمام خصومها في الحق التاريخي الذي تدّعيه.
 
هي تعتقد بأنها اشترت منّا الأموال والأنفس وصار يحق لفقهائها وأوليائها التصرف بنا نيابةً عن الله دون اعتراض أو خروجٍ في حركة احتجاج أو تظاهرة سلمية لا تمتلك غير الهتاف من أجل الوطن والخبز والحرية والكرامة؛ وإلّا فإن ذلك شغَبٌ يزعزع الولاء المطلق لها ولا يبادر إليه إلّا "أبناء السفارات"، فلا يستحقون عند ذلك غير القتل والخطف والتعذيب، وفي أقل الأحوال التكسير بالعصي والطعن بالسكاكين.
 
الأصوليات غير الدينية
لا تخلو التيارات غير الدينية من أصوليات تستند إلى ماضٍ فكري أو سياسي لا يقبل المراجعة، وشعاراتٍ لا تقبل التغيير، أو إلى رمزية سياسية تجاوزها الزمن بما حمل من تغيير في الواقع والظروف والأفكار، فجعل دورها في سياقاتٍ تاريخية بعيدة عن الفعل والتأثير. لهذه الأصوليات رموزها غير القابلة للنقد، فضلًا عن التجريح أو التشريح، ترتقي بها إلى مصاف المقدس الديني وترتد معها إلى منابع الاستبداد السياسي المضاد للديموقراطية.
 
تمارس هذه التيارات الاستبداد في أطرها الحزبية وتستخدم كل الوسائل غير الديموقراطية في خلق زعاماتٍ تستمر مدى الحياة، لا بل عندها: "الأمرُ في قريشٍ ما بقيَ من الناس اثنان"، فتورِّث الزعامة على أساسٍ عائلي أو طائفي، في وقت تتغنى فيه بالديموقراطية وتنخرط في مظهرها الانتخابي مثل الأصوليات الدينية. لدى هذه التيارات تنعدم الشفافية أيضًا، فلا أحد يعرف مصادرَ تمويلها ولا سبل الإنفاق أو آليات اتخاذ القرار لديها، فالفساد في مؤسسات دولنا يعود في كثيرٍ منه إلى غياب الحياة الحزبية الصحيحة وانعدام الشفافية والمحاسبة فيها وتسلُّط الزعامات وما تخلقه أو تتيحه من فسادٍ داخل الأطر الحزبية، فينقله الموالون والأزلام إلى المؤسسات العامة، ولا يُحاسَبون عليه في أحزابهم، بل يتمتعون بحمايتها. وإذا كان وجود الأحزاب وتشريع تنظيمها من الشروط اللازمة أيضًا لكل مجتمعٍ أو نظامٍ ديموقراطي، فإن الحياة الحزبية السليمة القائمة على النزاهة والآليات الديموقراطية من العوامل المهمة التي تجعل هذا الشرط فاعلًا في خدمة المسار الديموقراطي للمجتمع وتطوره على المستوى السياسي والاجتماعي.
 
إن غياب هذه الحياة يجعل الأحزاب مجرد هيكليات فارغة تلعب بها القيادات المستبدة التي تميل حيث تميل مصالحها الفردية أو العائلية أو الطائفية، وذلك بعيدًا عما تقتضيه مصلحة الوطن بكل فئاته وتنوعه وما يتطلبه تعزيز هذا التنوع الذي هو من أسس الديموقراطية أيضًا.
 
هكذا تتساوى الأصوليات في عرقلة المسار الديموقراطي وتسخيره لمصالحها حتى تدميره، فيغدو من مظاهر ذلك أن يستغرقَ تشكيل الحكومات في بعض بلداننا أشهرًا يعيش فيها المواطنون قلقًا أشدَّ من المعتاد على القوت والمصير.
 
 

الأكثر قراءة

لبنان 10/25/2025 8:33:00 PM
وُلد حمدان في 19 كانون الثاني (يناير) عام 1944، في قرية عين عنوب، قضاء الشوف في لبنان.
لبنان 10/26/2025 5:22:00 PM
اعتداء إسرائيلي جديد في جنوب لبنان...
ايران 10/26/2025 6:06:00 PM
 المسؤول هو سردار عمار، القيادي البارز في الحرس الثوري الإيراني ورئيس "الفيلق 11 ألف" التابع لفيلق القدس بقيادة إسماعيل قاآني