الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

بعد 71 عاماً على الهزيمة... كيف تنظر ألمانيا إلى روسيا؟

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة مجموعة العشرين في هامبورغ - 2017 - "أ ب"
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة مجموعة العشرين في هامبورغ - 2017 - "أ ب"
A+ A-

بين 8 أيار 1945 و8 أيار 2021، طرأت تغيّرات كثيرة على مشهد العلاقات الروسيّة - الألمانيّة. لكن بالنظر إلى ثبات الجغرافيا السياسيّة، يصعب تفسير الروابط الثنائيّة بعيداً من الهواجس الاستراتيجيّة، الضاربة في عمق التاريخ لدى كلا الطرفين. حتى إنّ الكثير من السياسات الحاليّة تستمدّ دوافعها من الحربين العالميّتين الأولى والثانية، إن لم يكن قبل ذلك.

 

تحاول ألمانيا إيجاد توازن في علاقاتها الدولية. كانت أوّل الداعين إلى عدم اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة بعد اليوم، كما كانت الحال إبّان الحرب الباردة. الفرنسيّون أبدوا حذراً تجاه سياسة كهذه. أملهم أن يعيد بايدن إصلاح ذات البين، بعد رحيل ترامب من البيت الأبيض. لم تنغرّ ألمانيا بالرئيس الديموقراطيّ الجديد. تعتقد أنّ الانعزالية الأميركية تطوّر أكبر من هويّة الرؤساء الأميركيّين، ربما تكون محقّة.

 

العباءة نفسها

ذكر مراقبون أنّ بايدن لم يستطع الخروج من عباءة ترامب في سياساته الخارجيّة. لم يدعم فرنسا في مواجهة وباء "كورونا"، وهذا أمر قد يكون مكلفاً للرئيس إيمانويل ماكرون، وللعلاقات الأميركيّة - الفرنسيّة إن فاز لوبان. كما لم يرفع بايدن الرسوم التي فرضها سلفه على الواردات الأوروبية من الصلب والألومينيوم. علاوة على كلّ ذلك، لم يقترح الرئيس الجديد، وفقاً للرأي نفسه، مشروعاً تجاريّاً مغرياً لبرلين كي تتخلّى عن خط أنابيب "نورد ستريم 2". لكن ليس مؤكّداً فعلاً استعداد ألمانيا لبحث فكرة كهذه.

 

تهديدات ترامب ثمّ بايدن بفرض عقوبات على مشروع استجرار الغاز الروسيّ لم توصل إلى حلّ القضيّة. وقد لا تفعل في المستقبل المنظور. ليس لأنّ ألمانيا لم تعد تثق بالولايات المتّحدة كما كانت تفعل في السابق وحسب، على الرغم من أهميّة هذا السبب. سرّعت برلين توصّل أوروبا إلى اتفاق مبدئيّ على الشراكة الاستراتيجيّة مع الصين. وتوصّل الطرفان إلى هذا الاتفاق في كانون الأوّل 2020، أي إنّ برلين لم تبطئ خطّتها بانتظار الرؤية الأميركيّة الجديدة. فإضافة إلى النظرة المتغيّرة تجاه الولايات المتحدة، ثمّة نظرة ألمانيّة شبه ثابتة إلى روسيا سادت برلين طوال ثلاثة عقود تقريباً.  

 

شعور "بالذنب"

برلين على بعد أقلّ من ألفي كيلومتر من موسكو فقط. هاجس الاجتياحات المتبادلة يخيّم فوق العاصمتين، على الرغم من مرور أكثر من سبعة عقود على الحرب بينهما. في الواقع، حاولت ألمانيا اجتياح روسيا مرّتين خلال القرن الماضي، وفي كلتا المرّتين خسرت ألمانيا الكثير. فبعد نهاية الحرب العالميّة الأولى، فقدت ألمانيا نحو 70 ألف كيلومتر مربّع من مساحتها، كما فقدت حقّ التسلّح وانهارت عملتها أمام الدولار من 4 إلى 4 آلاف مليار فرنك. وبعد الحرب العالمية الثانية، قسم جدار برلين ألمانيا طوال نصف قرن تقريباً. ومنذ الحرب الباردة، شعر الألمان بأنّ أيّ نزاع بين الشرق والغرب سيكون على أراضيهم، إضافة إلى شعور آخر "بالذنب" تجاه ما سبّبوه خلال الحرب العالميّة الثانية خصوصاً.

 

لهذا السبب، قد لا ترغب ألمانيا في ضمّ أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبيّ. فروسيا نفسها تنظر إلى الغرب بريبة دائمة، وأوكرانيا جزء من "المنطقة العازلة" التي تريدها روسيا، تفادياً لأيّ اجتياح قادم من الغرب. فمن بين المحاور الثلاثة التي خاض فيها هتلر اجتياحه لروسيا، كان المحور الجنوبيّ الذي يمرّ في أوكرانيا ويصل إلى القوقاز هو الأضعف. يفسّر كلّ ذلك، ولو جزئيّاً، إصرار ألمانيا على عدم اتخاذ خطوات تصعيديّة تجاه روسيا، أكان في مسألة أوكرانيا، أو تسميم المعارض أليسكي نافالني الذي عالجته في مستشفياتها، وخصوصاً في مشروع "نورد ستريم 2".

 

توقعات ومخاطر

يمكن توقّع وجود نظرة ألمانيّة إلى هذا المشروع شبيهة بالنظرة إلى اتفاقية "المجتمع الأوروبي للفحم والصلب" سنة 1952، والتي بدأت بين ألمانيا وفرنسا. بما أنّ الفحم والصلب شكّلا جزءاً أساسيّاً من الصناعة الحربيّة، هدفت الاتفاقية إلى ترسيخ الاعتماد المتبادل بين الدولتين لتلبية حاجة أسواقهما إلى تلك المادّتين. هذا الاعتماد المتبادل قلّل احتمالات الحرب، وكما تبيّن لاحقاً، شكّل نواة تأسيس الاتحاد الأوروبيّ. ليس مستبعداً أن تنظر ألمانيا إلى "نورد ستريم 2" على أنه اتفاق بنسخة جديدة ومطوّرة عن اتفاق "الفحم والصلب". والاعتماد المتبادل هنا يقوم على حاجة ألمانيا إلى الغاز من أجل الصناعات والتدفئة، وعلى حاجة روسيا الماسّة إلى الأموال.

 

لكنّ تلك السياسة لا تخلو من المشاكل. فإضافة إلى احتمال إيقاف الغاز الروسيّ إلى ألمانيا في ذروة الشتاء كما حصل سابقاً، تُضعف هذه السياسة الموقف الأوروبيّ العام تجاه روسيا، وتجعل أوكرانيا أكثر عرضة للضغط الروسيّ. فمشروع "نورد ستريم 2" يحرم كييف فرص الحصول على رسوم الترانزيت لنقل الغاز إلى أوروبا. تشكّل هذه الرسوم نحو 3% من الاقتصاد الأوكرانيّ. دول البلطيق وبولونيا ستكون خاسرة أيضاً من المشروع الجديد. ويمكن أن يكون الحشد العسكريّ الروسيّ الأخير بالقرب من الحدود الأوكرانيّة، نتيجة من نتائج التقارب الروسيّ - الألمانيّ في ملفّ "نورد ستريم 2".

 

التحدّي الأصعب

شهدت العلاقات التاريخيّة بين الطرفين انفراجات موقّتة. فالألمان (البروسيّون) والروس تحالفوا ضدّ نابوليون بونابرت، حتى إنّ ستالين وهتلر وقّعا اتفاق عدم اعتداء وتقاسما بولونيا ودول البلطيق في بداية الحرب العالمية الثانية. بذلك ولّدت عقود طويلة من العلاقات المتناقضة مشاعر متضاربة بين الدولتين. لكن يبدو أنّها باتت أقرب إلى الاستقرار في السنوات الأخيرة، من دون أن يعني ذلك نسياناً للتاريخ.

 

يذكر مؤسّس مركز "جيوبوليتيكال فيوتشرز" جورج فريدمان أنّه منذ نشوئها سنة 1871، كانت ألمانيا تخشى تحالفاً بين روسيا وفرنسا وبريطانيا، وقد خسرت في مواجهة هذا التحالف الثلاثيّ. وشنّت ألمانيا حربيها كلّما قوي اقتصادها واحتاجت إلى المزيد من الموارد. اليوم، "انفصلت بريطانيا عن الاتحاد الذي تقوده ألمانيا. روسيا تتودّد لألمانيا، والألمان يتقنون الخجل. تبحث فرنسا عن مكانتها تحت الشمس، التي غالباً ما تحجبها ألمانيا".

 

صحيح أنّ ألمانيا تتربّع اقتصادياً على عرش الاتحاد الأوروبيّ، كما باتت القوّة الاقتصادية الرابعة في العالم. لكن كما حصل في السابق، قد لا تصبّ هذه القوّة دوماً في صالحها. تنظر دول شرق أوروبا والشماليّة إلى السياسة الألمانيّة، كما كانت تنظر برلين إلى سياسات ترامب. حين تقيّم تلك الدول دور برلين كعامل سلبيّ في استقرار أمنها بمواجهة روسيا، تتكثّف المخاوف بشأن حيويّة الاتحاد الذي تتزعّمه ألمانيا اليوم. لهذا السبب، قد يكون إيجاد توازن بين العلاقة مع روسيا ودول أوروبا الشرقية أصعب تحدّ قارّي أمام ألمانيا في المرحلة المقبلة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم