الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

1017غرفة رقم

1017غرفة رقم
1017غرفة رقم
A+ A-

ليلى، أين أنت يا ليلى؟ ـ

أنا هنا يا مريم-

أدعى مريم، وهذه صديقتي الحميمة ليلى. للوهلة الأولى تخالنا شقيقتين، فعلاقتنا متينة صلبة لا تهزّها رياح الشدائد وعواصف الصعاب. عندما أتيت إلى هذا العالم السحري للمرة الأولى، وقعت عيناي على فتاة جميلة، ذات شعر أسود طويل كالستارة التي يلقيها الليل على ابنته الأرض. هي ليلى، الصبية الرقيقة التي تكبرني بسنة تقريباً. لطالما كنا نلتقي لنلهو معاً ونلعب شتّى الألعاب، في هذا العالم الذي تسوده ظلمة الليل الحالكة ولا ينيره سوى القمر الفضي وسط السماء. لم تبصر أعيننا قط النجوم البراقة التي اعتدنا عليها. أما إذا سألتني عن الوقت، فليس للوقت طغيان ولا للزمن أيّ سلطة علينا. منذ متى أنا هنا؟ سنة، اثنتان، أشهر، دقيقة؟ لا أعلم، أو بالأحرى لست أذكر، إذ إنّ العالم بما فيه فردوس أرضيّ مملوء بالحدائق الفاتنة والأنهر المعطاء الجيّاشة، فلا تنقصنا حاجة ولا الحاجة تحاول أن تسري فينا. أبوابها المصدّعة مغلقة، مفاتيحها بين أيدي الطمع الواقف، منذ الأزل، أمامها، ينتظر الفرصة الملائمة ليطلق العنان لما تخبّئه وراء خشبها الرّديء.

كيف التقيت بليلى؟ هذه قصّة أجهل تفاصيلها، إذ إنّ شبح النسيان حطّ على ذاكرتي مذ جئت. سلبني الذكريات الجميلة والكئيبة، واستولى على لحظات حياتي بكلّيتها، فلم يترك لي شيئاً يذكر من ماضيّ. لذلك، قرّرت البدء من جديد برسم خطوط حياتي هذه، أرسم مغامرة من هنا، وأخطّ أوقات المرح التي أقضيها مع ليلى من هناك، ليس لملء فراغ سيطر عليّ وعلى نفسي، بل لأثبت وجودي وأثبت للنسيان أنّه بالرغم من تمكّنه من التسلل إلى عقلي وذهني لن يستطيع الدخول إلى قلبي في محاولة الاستيلاء على المشاعر التي تراكمت على مدى الزمان. قد يحاول طرق بابي، لن أجيب. هذه المرة، أنا التي ستنتصر في المعركة. أمّا روايتي فقصيرة. لقد وجدتني ليلى مستلقية، في أحد الأيّام في حقل زهور ليلكية تغطّيها قطرات الندى، وتشعّ فلول الضياء على أثوابها النضرة ملقية على بساط العشب ظلالاً دقيقة النحت، مختلفة الأحجام. هزّت كتفي بيديها النحيفتين حتّى خلت النّسيم يداعبني، فاستيقظت من نومي العميق لألقاها، باسمة الثغر، تنظر إليّ بعينيها الخضراوين. فيهما أبصرت نوراً يسطع من بعيد، ضياؤه لمع يبثّ في نفسي الأمل والاطمئنان. ثمّ مرّ الوقت، لا أعرف كيف، تلك الفترات الحلوة نلهو معاً حتّى شددنا أواصر الصداقة بحيث لن تُكسر في هذه الدنيا أبداً.

ولكن هل الفرح يدوم طويلاً؟ في أحد الأيّام، اختفت ليلى فجأة. في البدء لم أعر الأمر أيّ اهتمام لعلّي ألقاها في الأمكنة المعتادة التي كنّا نلهو فيها... لم أجدها. عندئذ، بدأت أرتاب من الأمر، وتخلّلتْ ذيول الخوف قلبي الذي راح ينبض بسرعة خاطفة، إذ إنّي كنت مرتعبة من جهة، وأحثّ الخطى في عملية البحث من جهة ثانية.

ليلى! هل أنت هنا؟-

لا إجابة.

صديقتي أجيبيني. أين أنت؟ -

بحثت مطوّلاً. العرق المتصبّب من جبيني ودقات قلبي المتسارعة يضيفان على حالتي أشباح الفراق المؤبّد. لماذا هذا الشعور؟ هل ستصدق مخاوفي؟ أرجو أن يدوم الحلم طويلاً.

وبينما كانت الأفكار المتواصلة تجول في رحاب ذهني، تذكّرت اليوم الأول الذي التقينا فيه. حينذاك، لمعت ملامح وجهي بإشراقة بثّت فيّ بصيص أمل بملاقاة ليلى من جديد. في طريقي إلى ذاك المكان، سمعت بكاءً يدوّي بعيداً. ليس لذلك أهمية فالبحث عن رفيقتي له الأولوية.

؟ ـ ها أنت ذا، ليلى

نظرت إلى الأفق، فوجدت صديقتي واقفة في حقل زهور ليلكية خلابة، تضفي عليها خيوط القمر رداء فضياً زاهياً. هبّ نسيم عليل على وجهها، فما تراني سوى أحدّق في شعرها الأسود الطويل يتمازج مع الريح في حركة رشيقة وكأنها الأمواج انخلطت مع ظلمة الليل الحالكة التي لا ينيرها سوى وشاح القمر في السماء. لقد أعاد هذا المشهد لي ذكريات لقائنا الأول، ولكن الشعور مختلف الآن. أحسست بالحزن لرؤية ليلى، هل باتت الهواجس تنام في عقلي حتّى أنّي أصبحت غير قادرة على التحكم بها؟

ليلى، لماذا لم تردّي عليّ؟ أمضيت ساعات وأنا أبحث عنك، قلقت كثيراً، لا تخيفيني هكذا مجدّدا -

... مريم-

حدّقت ليلى فيّ مطوّلاً ونظراتها تعكس الأسى في قلبها.

ما بك يا عزيزتي، هل من أمر يزعجك؟ -

حلّ الصمت لوهلة قصيرة. ولكنّ ليلى تنفست الصعداء بهدوء، نظرت إلى عينيّ وصارحتني القول:

مريم، صديقتي، اسمعيني جيداً. أرايت هذا العالم الذي نعيش فيه، هل وجدت بأن به خللاً ما؟ -

كنت صامتة لبعض الوقت، حتّى بدأت أراقب الكواكب حولنا والقمر الذي يدور فوقي على الدوام. لم أستطع الإجابة، بل لم أجد إجابة. كل شيء كان كما عهدته. هل من شيء غريب في الكون؟ هل تغيّر شيء ولم ألحظ ذلك؟ وعندما شعرت ليلى بحيرتي، تابعت قائلة:

إنّ هذا العالم غارق في ظلام دامس منذ الأزل، لم تسطع أشعة الشمس فيه يوماً. ولا نعمت أرضه بلقاء الدفء وضيائها الذهبي. الحياة، يا مريم، دوامة. نعيش، ثم نموت، ثم يولد أطفال آخرون ليتابعوا مثلنا خطوات فرضها الزّمن علينا وعلى كل من يجيء إلى هذه الأرض. ويستمرّ الدولاب بالدوران. هل بفقداننا سيتوقف؟ إذا اختفينا يوماً، هل الزمن سيخلد في سبات عميق؟ أم أننا فقط في محطة انتظار، عالم خالد لا يزول، ولكن ماذا ننتظر؟ لطالما بحثت عن إجابة لسؤالي والآن وجدته. اعذريني يا مريم، لم أكن الصديقة التي ظننتي أنني هي. آسفة، آسفة! لقد كنت خائفة، وحيدة. وتعلمين كيف تؤثّر الوحدة على النفس البشرية. هي كالوحش المفترس الذي يغرس أسنانه الفولاذية في أبداننا. هذا الألم، ألم الفراق والعزلة. ولكن كل شيء تغيّر عندما وجدتك، أتعلمين هذا؟ لقد وجدتك وأصبح لديّ بديل الآن. ظننت بأنّني قد أستطيع العودة إلى عالمي إذا ما أقنعتك بالبقاء مكاني. اعذريني، أنا حقّاً آسفة... أعتقد بأنّ القدر علم بخطّتي والآن ألقى ما أستحقّه. أردت طوريتك معي، فإن لم أتمكّن من النجاة، لم أرغب في أن تنجي أنت وتتركيني وحدي، لذلك أوهمتك أن هذا العالم مثاليّ، تعلّقي فيه أكثر فأكثر حتّى تشتدّ قيوده المرتبطة بروحك وتنفكّ قيودي الصدئة. أردتك أن تأخذي مكاني فأتحرّر وألقى من أحبّ مجدداً، ولكن كلما تعمّقت في هذه اللعبة وجدتني أغرق إلى الأعماق بينما كنت تطفين على السطح. آه كم كنت مغفّلة! استغللتك وبالرغم من ذلك تنادينني بابتسامة برّاقة "صديقتي". ها... عندما أنظر إلى الوراء، أوقن بأنه، من البداية، لم أكن لأربح. أنت الفائزة يا مريم. تهانيّ لك يا عزيزتي. عودي إلى عالمك ولا تنظري إلى الوراء، لقد حان موعد الفراق. أذكريني دائماً، سأكون معك منذ هذه اللحظة وسأحميك من بعيد لعلّي أخفّف من الندم الذي يأكل أيامي. عودي ولا تنظري إلى الوراء، فالحياة جهد عمل ولكنها لا تصلح بانعدام الأمل. وداعاً وإلى الّلقاء القريب...

واختفى صوت ليلى وراء غشاء أبيض شفّاف.

... توت، توت، توت-

جدار المستشفى الأبيض المعتاد يعكس ظلال الممرّضات الّلواتي انطبعت على معالمهنّ الدهشة، فما تراهنّ سوى يركضن في كل أنحاء الغرفة، ينادين الطبيب لتفقّد حالة المريض. عندما أبصرتْ عيناي نور الشمس من جديد، تخلّل الدفء كياني، فحرّكت أصابعي رويداً رويداً. لم أشعر بألم قطّ إلّا صداعاً خفيفاً جرّاء ملاحقة الأرواح المتحرّكة الرّشيقة هنا وهناك. حضر الطبيب مسرعاً مع مساعده يتحرّى أمري وأنا مستلقية على السرير الأبيض ومتّصلة بأجهزة أجهل عملها. في البدء، نظر إلى المؤشّر بقربي، ثم تفقّد جسدي بخفّة وهمّة، فيضع منظاره المنير في أذني من جهة، وعصاه الخشبية في فمي، من جهة ثانية. بانت الغبطة على وجهه المشرق، فانحنت شفتاه بابتسامة أبقت عليه طابع الجدّيّة والنظام. عندها، أجرى مكالمة هاتفية لم تستغرق سوى بضع دقائق. خرج الطبيب لاستقبال زائرين أتوا يلهثون إلى غرفتي. من هم يا ترى؟ ها... هل هي... أمّي؟ أبي؟

! مريم! عزيزتي مريم! أفقتِ أخيراً! حمداً للّه يا صغيرتي-

وانهالت عليّ الأحضان وكادت تخنقني، والدّموع الساخنة التي انهمرت عليّ أشعرتني بحنان الوالدين وعطفهما من جديد

... ـ خمس سنوات وحبيبتي مريم نائمة، والآن

ثم بكت والدتي، والممرّضات بدورهنّ نلن حصة من احمرار العيون وانتفاخها.

مرّت بضعة أيّام وما زلت في المشفى، إذ وضعني الطبيب تحت المراقبة لمدّة أسبوع، بعدها أعود مع والديّ إلى منزلنا. وعند ظهر التاسع والعشرين من ديسمبر، يوم السبت تحديداً، ضجرت من المشهد الذي تطلّ عليه غرفتي، فخرجت منها لعلّي أجد تسلية أمضي بها وقت فراغي بينما تأخذ الممرّضات قسطهنّ من الراحة. عندها أيقنت أنّ باب الغرفة رقم 1017 المجاورة لغرفتي، لم يكن مغلقاً. دخلتها بدافع الفضول لألقي التحية على المريض فيها إذ أنّه قد يكون هو الآخر ضجر من الروتين السائد في المستشفى. طرقت الباب، لا إجابة تذكر. لم أرغب بالنداء خوفاً من إزعاج جاري لعلّه يكون نائماً، فدخلت بخطى هادئة لا تسمع لها أيّ صدى، لتراني أحدّق بأعين دامعة إلى سرير أبيض فارغ. ركضت بسرعة خاطفة إلى مسؤولة القسم أسألها عن المقيم في الغرفة رقم 1017. صمتت الممرضة ونظرت إليّ بحزن عميق. فهمت المغزى. ثم سألتها عن مضجعها لتجيب بصوت متقطّع. انهالت الدموع من عينيّ، بكيت طويلا، ما الذي نسيته؟ سؤال حيّرني منذ استيقاظي. لقد عثرت على الإجابة. قلق والداي عليّ، خشيا أن تتدهور صحّتي مجدّداً ولكنّي أكّدت لهما أنّني بخير، محطّة وستمرّ.

في اليوم التالي، تحسّنت حالتي وتوجّهت إلى المكان الذي أخبرتني عنه الممرضة. كنت قد قرأت على لوحة السرير الخشبي "ليلى".

المقبرة المجاورة للمشفى، كانت حديقة نضرة تزيّنها أشجار صفصاف تلعب الرّياح بأوراقها المتدلّية. رحت أبحث عن لوحة حجريّة في زاوية المقبرة حفر عليها اسم "ليلى". وجدتها من دون عناء.

مرحبا يا صديقتي. ليلى، اشتقت إليك... تذكّرت الآن، أعذريني. استغرقتُ الكثير من الوقت حتّى عادت إليّ ذاكرتي-

كدت أبكي مرّة أخرى ولكنّني أعدت شريط لقائي الأخير مع ليلى.

لا، لن أحزن بعد الآن، لن أبكي بعد اليوم، سأتبع نصيحتك يا عزيزتي، لن أنظر إلى الوراء بل سأمضي قدما. الحياة محطّة، والزمن شيء من تخيّلنا، لو نزول لن يتوقّف عن الدوران في حلقته الأبدية. علّمتني الكثير عن عالمي، علّمتني التّشبّث، ليس بهذه الحياة الفانية، بل بالأشخاص الذين ألقاهم في رحلتي المضنية، وبالذكريات التي أصنعها معهم. أرقدي بسلام يا ليلى، أنت محطّة خالدة في ذهني، لن أنساك بعد الآن، لك وعدي. وداعاً يا صديقتي. إلى اللقاء القريب.

ثم قدّمتُ إلى ليلى باقة زهور ليلكية كانت المفضلة لديها، ويداً بيد، عدت مع والدي ووالدتي إلى منزلنا الجديد، فبدأت رحلة أخرى، في محطّتنا التّالية...


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم