الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

"سيدة القصر الطيبة"

المصدر: "النهار"
إيفون سرسق كوكرن.
إيفون سرسق كوكرن.
A+ A-
خلال تحضيري أطروحة الدكتوراه في الجامعة اللبنانية، بعنوان "الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للروم الأرثوذكس في مدينة بيروت ومتصرفية جبل لبنان، ١٨٦٠ - ١٩٢٠"، كان من المفترض أن أحيط بكلّ الأمور العامة والخاصة، ومن بينهم دور آل سرسق في حياة بيروت خلال تلك الفترة.

أمنت اتصالاً بالسيدة إيفون وتواعدنا في اليوم الفلاني. وصلت قبل الوقت بربع ساعة، استقبلتني وقامت بواجب الضيافة بنفسها. سألتني عن طلبي، شرحت لها المقصد، وكانت عيناها شاخصتين عليّ لسماع الكثير.

تلوتُ على مسمعها بعضا من موجودات أرشيف مطرانية بيروت الأرثوذكسية.

سألتني، هل قرأتها كلها؟ أجببتها لا،. لأنني سأعالج فترة زمنية محددة، وأنتم آل سرسق كان لكم دور في تلك الفترة.
وبعد مرور نصف ساعة تقريباً من الكلام المتبادل بيننا، قالت لي: "يا ابونا بدك قلك شي، ولازم تجاوبني بصراحة". وافقت على طلبها، وقالت: "لقد أخبروني، أن المطران الياس (عوده) يحتفظ بكمٍّ كبير من وثائق آل سرسق، وانا بحاجة لها، فكيف السبيل لاسترجاعها؟".

تبسمت، وضحكت على صوت منخفض. وهي متحمّسة بسرد الأمور، وأنا أصغي إليها بكل تركيز.

انتهت من مطالعتها، وجلست قبالتي على الأريكة، وقالت: "شو رأيك بالموضوع يا أبونا؟".

تنحنحت قليلا لأن حلاوة شراب التوت الذي قدّمته لي كانت زائدة، بادرتها بالقول: "سأجاوب على كل ما طرحته عليّ في هذه المطالعة. لكن بشرط"، فقالت: "ما هو؟"، أجبتها: "أن تصدقي كلامي بكليته، والّا تقاطعيني خلال الرد. اسمعيني بكل ثقة".

قلت لها: "المطران لا يعرف شيئاً عن موجودات الأرشيف، ولا يعرف التفاصيل أبداً، والذي نقل إليك المعلومات لا يعرف شيئاً، ولا يعرف ماذا يوجد في هذا الأرشيف. انا قرأتُ معظمه، ولا يوجد شيء خاص بكم فيه. والذين أخبروك عن هذا الأمر في نفسهم غاية غير شريفة".

وتابعت: "لا ارتبط بالمطران الياس عوده إلا من خلال معرفتي به كرئيس كهنة، وليست الغاية الدفاع عنه، فهو أدرى بنفسه من غيره. الموضوع غير صحيح. وانت ظلمتِ المطران. لن أزيد أكثر".

ارتاحت ورجعت إلى الوراء وقالت: "صدّقتك، وأعتقد أنني ظلمتُ المطران. يجب أن أصلح خطأي".

ثم ابتسمت ابتسامة عريضة وقالت: "قدّيش في ناس سيئي النية، استطاعوا أن يقلّبوني على سيدنا دون وجه حق؟ ولو كان المطران يحتفظ بالوثائق لما قصدتكم لأطلع على الوثائق خاصتكم".

ودًعتها وهي تلوم نفسها علـى ما حصل، وقالت لي: "أهلا وسهلاً بك في بيتك هنا يا أبونا. فقط اتصل لتتاكد من وجودنا. وهذا القصر وسيدته تحت طلبك لأي معلومات تحتاجها، على أن تحسب حسابي بنسخة عن اطروحتك متى انتهيت منها".

لقد رحلت إيفون سرسق كوكرن، والألم يعصر قلبها، وأخذ الموت سيدة قصر عرفتها بكلّ محبة وثقافة وعلم وإنسانية.

لكِ الرحمة والذكر المؤبّد يا "سيدة القصر الطيبة".
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم