بين "التكافل والدقة": هل يُهدّد الذكاء الاصطناعي المبدأ الاجتماعي لقطاع التأمين؟

يشهد قطاع التأمين اليوم تحوّلاً جذرياً بفعل صعود تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، إذ أصبحت الشركات قادرة على تحديد المخاطر بدقة غير مسبوقة، وتحديد الأسعار بما يتناسب مع كل ملف شخصي على حدة. هذا التطور يَعِدُ بمستقبل أكثر تخصيصاً وكفاءة، لكنه يهدّد في الوقت نفسه - وفق البعض - مبدأ التضامن الذي قامت عليه صناعة التأمين منذ نشأتها.
تأمين قائم على التضامن.. يواجه تحدي "الخوارزميات"
يقوم التأمين على معادلة بسيطة لكنها مفارقة في جوهرها: من جهة، يقوم النظام على التضامن، حيث يساهم الجميع وفق قدراتهم، ويستفيدون جماعياً عند وقوع الخسائر.
ومن جهة أخرى، يرى البعض أن الطفرات التكنولوجية وتزايد حجم البيانات وأساليب التسعير المتقدّمة تدفع نحو تفكيك هذا التضامن، عبر تسعير فرديّ دقيق يميّز بين فئات العملاء بدرجة غير مسبوقة.
يضاف إلى ذلك إطار قانوني صارم، يمنع في عدة دول، استخدام البيانات الحسّاسة أو التمييز على أساس الجنس أو الأصل أو الدين، حتى وإن كان ذلك مرتبطاً بمستوى الخطر الفعلي.
فاليوم، دخل القطاع عصر الخوارزميات والتعلّم الآلي، حيث يمكن لشركات التأمين تحليل كم هائل من البيانات من الهواتف الذكية، والموقع الجغرافي، وسلوك القيادة، ونمط الحياة وغير ذلك. والهدف: تسعير بحسب "المستوى الحقيقي للمخاطر".
لكن هذا التخصيص قد يحمل جانباً مظلماً، وفق البعض، إذ يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار التأمين للفئات عالية المخاطر لتبلغ مستويات تجعلها عاجزة عن الحصول على تغطية؛ وهو ما يهدّد جوهر فكرة التأمين الجماعي.
أخلاقيات تحت المجهر
تواجه شركات التأمين تساؤلات قانونية وأخلاقية معقدة حول حدود استخدام البيانات الحساسة في تقييم المخاطر. فالتشريعات الأوروبية خاصةً تحظر التمييز على أساس الجنس أو الأصل أو الإعاقة، وتُلزم الشركات باعتماد نماذج تسعير شفافة وغير تمييزية.
وفي ظلّ تصاعد الضغط في السياق، تجد الشركات نفسها مطالَبة بتوضيح أسس تسعيرها، ودمج معايير الخصوصية في تصميم منتجاتها منذ البداية، لتفادي اتهامات التمييز أو الغموض.
"تسعير أدق لا تسعير مفرط"
يرى الدكتور شربل باسيل (أستاذ مشارك في كلية الاقتصاد بجامعة قطر) أن الذكاء الاصطناعي كتكنولوجيا يمكن أن يسهم في تحسين دقة تسعير خدمات التأمين وخفض تكاليفها، وذلك من خلال قدرته على تطوير العمليات الروتينية، مما ينعكس مباشرة على تكلفة هذه الخدمات وجودتها. وإن قدرة الذكاء الاصطناعي على معالجة كميات ضخمة من البيانات بسرعة ودقة تساعد في الكشف عن محاولات الاحتيال وتقليل الهدر، الأمر الذي يؤدي في المحصلة إلى خفض تكلفة التأمين وتحسين الخدمات المقدّمة.
ويشير باسيل إلى أن هذه التطورات التقنية قد تفضي إلى تسعير أكثر دقة وتنافسية في السوق، وهو ما يصبّ في مصلحة القطاع والمشتركين. ولا يرى أنه سيساهم في تسعير شخصي مفرط، بل بتسعير شخصي أدق، بفضل قدرته على معالجة البيانات بشكل أسرع. وفي ما يخص مبدأ التضامن أو التكافل في التأمين، يرى باسيل أن أي خفض في الأسعار يتحقق بفضل التكنولوجيا ينعكس إيجاباً على المشتركين.
لكنه يلفت في الوقت نفسه إلى أن استفادة الشرائح الاجتماعية من هذه التطورات قد تستثني الفئات التي لا تملك أساساً إمكانيات الاشتراك في التأمين بسبب ظروفها الاقتصادية والاجتماعية، أي الفئات الخارجة عن المنظومة التأمينية، ولا دخل للذكاء الاصطناعي في ذلك.
من هنا، يؤكد باسيل أن دور التشريعات يجب أن يتركّز على ضمان بقاء السوق تنافسية لا احتكارية، بحيث لا تهيمن عليها شركات محدودة العدد. فالمنافسة بين الشركات تساهم في خفض الأسعار وتحسين الخدمات، في حين أن احتكار عدد قليل من الشركات للسوق يجعل الأسعار خاضعة لهيمنتها، بغضّ النظر عن الطرق والتقنيات المستخدمة. كذلك، يرى أن دور التشريع لا ينبغي أن ينصبّ على تقييد استخدام التكنولوجيا نفسها، بل على حماية البيانات الشخصية للمشتركين وضمان تخزينها بشكل آمن وتنظيم النفاذ إليها.
نحو نموذج يوازن بين الدقة والتضامن
التحدّي الأكبر أمام صناعة التأمين اليوم هو التوفيق بين الدقة التي توفرها التكنولوجيا، والقيم التضامنية التي شكّلت الأساس التاريخي لهذا القطاع. الطريق المستقبلية تكمن في إيجاد توازن ذكي بين الجانبين: نموذج يتيح لكل فرد أن يدفع وفق مستوى المخاطر الواقعي، من دون أن يُقصى أي شخص من مظلة الحماية الجماعية. فالتأمين في النهاية ليس مجرد معادلة رقمية، بل عقد اجتماعي يقوم على المشاركة في مواجهة المجهول.