تكنولوجيا القلق

يحبّذ الخطاب التكنولوجي أن يصوّر العالم الرقمي على أنه فضاء مفتوح بلا قيود: أصوات متساوية، منصات للجميع، وحرية تعبير لا سقف لها. لكن هذه الصورة الوردية تخفي تناقضا جوهرياً؛ فالمجال الذي يُفترض أنه يحرّر الإنسان، يُلقي به في قفص جديد من القلق والتوتر.
إن ما يُسوَّق على أنه حريّة رقميّة ليس في جوهره سوى وهم مشروط. فمنصّات بلا رقيب لا تعني بالضرورة استقلالية أو عدالة، بل تسمح بسيطرة الصوت الأكثر صخبًا والأشدّ تطرفاً. المستخدم العادي يواجه سيلاً من الأخبار المضللة، وهجمات التنمّر، ومقارنات مستمرة تستنزف ثقته بنفسه. النتيجة: فوضى نفسية تُترجم إلى قلق دائم وإرهاق عقلي ينعكس حتى على إنتاجيته وعلاقاته الإنسانية.
رغم أن شركات التكنولوجيا تروّج لصورتها "الخضراء"، فإن هذه الصورة لا تخلو من مفارقات. فهي بالفعل تقلّل استخدام الورق وتوفّر بدائل عن السفر والتنقّل من خلال الاجتماعات الافتراضية والعمل عن بُعد، غير أنّها تعتمد في المقابل على مراكز بيانات ضخمة تلتهم الطاقة وتزيد الانبعاثات. وبذلك لا تقدّم حلاً بيئياً حقيقياً بقدر ما تعيد توزيع الأعباء: من استنزاف الطبيعة المادية إلى إنهاك الصحة النفسية والاجتماعية للبشر، فيما تُخفي التكاليف الفعلية خلف شعارات براقة عن الاستدامة.
الأدهى من ذلك أن ما يُقدَّم دواء لأزماتنا اليومية يتحوّل أحياناً إلى مولّد لمشكلات جديدة: عزلة، قلق، اكتئاب. وهذه ليست ظواهر عابرة، بل ملامح واضحة في حياة جيل نشأ ولم يعرف واقعًا خارج حدود الشاشة، جيل يتنفس عبر الخوارزميات ويتعلّق بصورته الافتراضية أكثر من حضوره الواقعي.
ربما آن الأوان لنتعامل مع التكنولوجيا بواقعية، بعيداً عن ثنائية "الخلاص أو الخطر". فهي منظومة تُنتج أوهاماً بقدر ما تصنع أدوات. والتحدّي الحقيقي لا يكمن في رفضها أو الارتماء في أحضانها، بل في صوغ وعي نقديّ يميّز بين حريّةٍ تمنح قوة، ووهمٍ رقميّ يزرع فينا هشاشةً وقلقاً لا ينتهيان.