كرة القدم بين التقليدية والحداثة: عدالة أم فقدان للروح؟

رياضة 02-12-2025 | 10:46

كرة القدم بين التقليدية والحداثة: عدالة أم فقدان للروح؟

التغييرات كانت تهدف إلى جعل اللعبة أكثر إثارة ومتعة، لكنها كانت لا تزال تحتفظ بعفويتها وبساطتها.
كرة القدم بين التقليدية والحداثة: عدالة أم فقدان للروح؟
الجماهير تواجه تناقضًا دائمًا بين الإعجاب بالعدالة التقنية وبين الحنين إلى العفوية والإثارة. (وكالات)
Smaller Bigger

لم تعد كرة القدم كما كانت سابقاً، تتغيّر باطّراد بطولةً بعد أخرى، وتبدّلت عمّا عرفناه عنها في الأزقة وعلى ملاعب ترابية صغيرة. تجارب كثيرة وتعديلات في القوانين حوّلت الملاعب تدريجاً إلى فضاءات ذكيّة، مجهّزة بالكاميرات، وأجهزة تتبّع، وتقنيات تحليل متقدمة، وشاشات تعرّض كل لقطة دقيقة قبل أن يتخذ الحكم قراره. التغييرات لم تقتصر على البنية التحتية، بل امتدت لتصل إلى قواعد اللعبة نفسها، عبر تعديلات متواصلة يصدرها "إيفاب" لضمان الدقة والعدالة، ولكن هل هذه الدقة تعني أيضاً فقدان الروح؟

تاريخ كرة القدم يعجّ بالتحوّلات. في الماضي، كانت تعديلات بسيطة مثل تخفيف قاعدة التسلل أو منح 3 نقاط للفوز بدلاً من نقطتين، أو منع الحارس من إمساك الكرة إذا أرجعت إليه من زميله، كافية لإطلاق أساليب هجومية جديدة وتغيير ديناميكية اللعب. تلك التغييرات كانت تهدف إلى جعل اللعبة أكثر إثارة ومتعة، لكنها كانت لا تزال تحتفظ بعفويتها وبساطتها. ومع دخول القرن الحالي، أصبح التوجّه نحو التحكم الكامل والدقة التقنية هو المسيطر، بدخول التكنولوجيا إلى قلب اللعبة.

تقنية خط المرمى، على سبيل المثال، جاءت لتضع حداً للجدل حول الأهداف المشكوك فيها، مع إشارات فورية على ساعة الحكم، ما أعطى القرارات مصداقية ووضوحاً غير مسبوقين. ومعها ظهرت تقنية حكم الفيديو المساعد "VAR"، الذي ساعد في تدارك الأخطاء الحاسمة المتعلقة بالأهداف، التسلل، البطاقات الحمراء، وحتى ركلات الجزاء، لكنه جلب معه تباطؤاً واضحاً في سير المباريات، وتأثيراً على إيقاع اللعب ومتعة المشاهد، حتى أصبح المشجعون يشعرون أحياناً بأن الفرح بالهدف يُراقب قبل أن يتحقق.

 

اقرأ أيضاً: من ركلة جزاء غير صحيحة إلى شغب في المدرجات... ماذا لو كان الـ"VAR" حاضراً؟


لا تقتصر التطورات على التحكيم فقط، بل شملت أداء اللاعبين نفسه. الأجهزة الذكية، الصدرية المدمجة، وأدوات تتبع اللياقة البدنية، تمنح المدربين بيانات دقيقة حول كل نبضة قلب، مستوى إجهاد، سرعة، وموقع كل لاعب في الملعب. هذه المعلومات صارت جزءاً أساسياً من التخطيط التكتيكي، ما رفع من مستوى الاحترافية، لكنه أضاف بعداً آخر للعبة، حيث لم تعد تعتمد على الحدس والخبرة فقط، بل على تحليل البيانات الرقمية.

الجماهير من جهتها، تواجه تناقضاً دائماً بين الإعجاب بالعدالة التقنية وبين الحنين إلى العفوية والإثارة التي كانت تمنحها كرة القدم التقليدية. بعض المشجعين يرون في الـ"VAR" أداة "تقتل الروعة"، بينما يرى آخرون أنها تحقق العدالة التي طالما انتظروها، وتحمي الفرق من الظلم التحكيمي الذي قد يحسم مصير موسم كامل.

التعديلات الجديدة التي أقرّها "IFAB" في 2025، مثل فرض استبعاد لاعب لمدة دقيقتين إذا طلب الجهاز الطبي تدخلاً وهمياً، أو تعديل قواعد التسلل وفترة لعب الحارس بالكرة، تؤكد أن اللعبة تسعى لمواكبة العصر وتحقيق العدالة، لكنها تضع المسؤولية على الحكم في قلب المشهد. التقنية اليوم لم تعد مجرد أداة مساعدة، بل أصبحت شريكاً أساسياً في كل قرار.

الآراء في هذه التطورات متباينة، فخبراء التحكيم يرون أحياناً أن التفاصيل الدقيقة مثل تحديد التسلل بالمليمترات قد تقتل العدالة نفسها أكثر من حماية المباريات، أما  الجماهير فترى أن اللحظة، فرحة الهدف، وعفوية الاحتفال أصبحت مراقبة قبل أن تتحقق. ومع كل تقدم تقني، تتزايد المخاوف من أن تصبح كرة القدم رياضة للشركات القوية تقنياً، بينما تظل الفرق الفقيرة محرومة من العدالة نفسها.

ويقول أحد عرّابي "إيفاب" المدرب الفرنسي آرسين فينغر: "كان لا بد من أن تطبّق تقنية حكم الفيديو المساعد منذ عقدين لأنها ستجعل كرة القدم أكثر صحّية من ناحية نزاهة التحكيم ومنع الفساد والتحكيم المشبوه، لكن في نفس الوقت وجّه فينغر نقداً لما صار يُعرف بـ"التسلل المجزي" عبر  الـ"VAR"، هداف يُلغى هدفه لأن إصبعه أو كتفه كانت بضعة مليمترات أمام الدفاع، وهو ما وصفه بأنه "قتل لميزة النفس الهجومي المعتاد في كرة القدم". وتطرق فينغر الى مسألة لمسة اليد التي تأخذ جدلاً واسعاً، فقال: "تطبيق  التقنية في لمسات اليد رفع من قرارات ركلات الجزاء إلى مستوى صارخ، في حالات كثير منها ارتطام عرضي طبيعي بجسم مدافع، وليس لمساً عمدياً، وهو  تضخيم لظلم تقني يقتل جمال اللعبة ويحوّلها إلى لعبة أرقام وبروتوكولات".

 

هدفا مارادونا في ربع نهائي موندال 1986 لا يزالان علامة فارقة في تاريخ اللعبة. (وكالات)
هدفا مارادونا في ربع نهائي موندال 1986 لا يزالان علامة فارقة في تاريخ اللعبة. (وكالات)

 

ثمة أربع دقائق في تاريخ المونديال تبرز التناقض الصريح في جمالية اللعبة، حيث سجل دييغو مارادونا هدفين للأرجنتين في مرمى إنكلترا ضمن ربع نهائي مونديال 1986، الأول من لمسة يد تاريخية والثاني بطريقة أسطورية، هدفان لا يزالان يُعتبران من أيقونات اللعبة، وهو ما يعلل حماستها وشعبيتها لكونها أقرب الى روح المشجع.

حالياً، اللعبة الشعبية أمام مفترق طرق بين الحداثة والتقليدية، بين عدالة التقنية وروح اللعبة الإنسانية. التكنولوجيا قدمت أدوات غير مسبوقة لضمان نزاهة المباريات وحماية حقوق الفرق واللاعبين، لكنها في الوقت نفسه فرضت قياسات دقيقة وقرارات رقمية أحياناً تصطدم بإحساس الجماهير وهويّة اللعبة.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

آراء 12/2/2025 4:15:00 AM
ليس في صالح أهداف الزيارة تحويل الحدث كمفصل تاريخي بين وضعيتين؛ أي أن ما قبل الزيارة وخلالها تعيش البلاد هدنة تخفِّف من حدِّة الاعتداءات الإسرائيلية، وما بعد الزيارة ستحصل حرب مُدمِّرة ضروس، ستقوم بها إسرائيل ضد لبنان...
النهار تتحقق 12/2/2025 2:17:00 PM
"اغفر لنا ذنوبنا وتجاوز عن سيئاتنا". صلاة يردّدها الأمين العام السابق لحزب الله، رافعاً يديه، في فيديو قيد التداول. ما القصة؟ 
لبنان 12/2/2025 10:11:00 PM
 آموس هوكشتاين: لبنان اليوم ورئيسه هما الأكثر موالاة للغرب على الإطلاق.
لبنان 12/3/2025 9:19:00 AM
خلال ندوة في جامعة القديس يوسف (USJ) عُقدت إحياءً لذكرى المفكر والكاتب الوطني حبيب صادق، شارك السفير كرم بمداخلة أثارت جدلاً واسعاً داخل القاعة.