كأس العرب: انطلقت من بيروت ورائدها "أبو الرياضة" اللبنانية
"لماذا لا يكون للعرب كأس تجمعهم كأممٍ متجاورة؟". سؤال طرحه "أبو الرياضة اللبنانية" الصحافي الراحل ناصيف مجدلاني، قبل أكثر من ستة عقود زمنية، إلا أنه لم يكن يدري أنه يضع نواة ستقاوم الزمن، والانقسامات، والحروب، والخيبات.
بعد ثلاث وستين سنة، تعاظمت أهمية البطولة، خصوصاً بعدما انتقلت لتصبح إحدى بطولات الاتحاد الدولي لكرة القدم الـ "فيفا"، قبل أربع سنوات. وستقام للمرة الثانية توالياً في قطر، وتعود معها تلك الروح الأولى التي انطلقت من بيروت.
الحديث عن كأس العرب ليس حدثًا رياضيًا فحسب، بل هو حديث عن بلدٍ صغير هارب من الأزمات إلى ذاكرته؛ لبنان، الذي يغرق اليوم في دوامة من الأزمات، يبقى الأب الروحي لهذه البطولة الإقليمية، والصفحة الأولى من كتابها.
يتفاخر أبناء "وطن الأرز" مع عودة كل نسخة من البطولة بأن الحلم العربي بدأ من عاصمتهم "حيث انطلقت الفكرة التي جمعت أمة بأكملها تحت راية الرياضة".

تحمل البطولة هذه المرّة طابعًا وجدانياً أعمق. فهي تُقام على وقع بؤرٍ مشتعلة، توترات سياسية، أزمات اقتصادية، حروب تدق أبواب بعض العواصم العربية، وانقسام عربي لم يعد خافياً على أحد.
تكتسي النسخة الحادية عشرة أهمية كبيرة، إذ تمثل مساحة للقاء عربي بلا وسطاء أو شروط، وبلا حساسيات سياسية. المدرجات ستتكلم بلغة واحدة، والأغاني ستكون بلجهة مشتركة، واللاعبون سيتحولون إلى سفراء شعوبهم.
تمنح البطولة الوطن العربي دوراً أساسياً في كرة القدم العالمية، لكونها تتظلل بالـ فيفا، إذ إن استمرارها للمرّة الثانية ليس تفصيلاً بروتوكولياً، بل هو اعتراف دولي بأن المنطقة تستحق بطولة جامعة، وأن العالم يرى في العرب قوة جماهيرية وبنية كروية تستحق الاستثمار والتنظيم.
تذكّر كأس العرب الأجيال الجديدة بما يمكن أن تفعله الفكرة حين تولد صادقة، إذ أعلن عنها الأمين العام السابق للاتحاد اللبناني مجدلاني مع مواطنه عزت الترك، حين وجّها دعوة للالتئام في بيروت عام 1962، حيث زرعوا بذرة حلم، لم يدركوا حينها أنه سيستمر إلى يومنا هذا، فتصبح البطولة تنافسية لا ودية أو ثانوية.
قطر التي استضافت كأس العرب 2021، وها هي تستعد لاحتضانها مجددًا، تقدّم نسخة مختلفة، حيث تعيش على إرث مونديال 2022، وتضع الملاعب العالمية كمضيفة للمباريات بين الأشقاء، وسط تنظيم احترافي، وحضور جماهيري يليق ببطولة بدأت متواضعة، ولكنها تكبر عاماً بعد عام.
تأتي البطولة، في وقت تعيش أجزاء العالم العربي مرحلة مضطربة، وبينها لبنان الذي يعاني عدواناً إسرائيلياً مستمراً وقبله فلسطين وغزة، كما أن السودان يعيش انقساماً خطراً، واليمن يبحث عن أي نافذة نور.
بالرغم من كل الأحداث، ستسمع في البطولة أناشيد هذه الدول، ستبرز ألوان راياتها، وسيركض لاعبوها ويقاتلون من أجل لحظة فرح.
إنها رواية طويلة بدأت في بيروت عام 1963، وما زالت تُكتب سطورها، وتدون البطولات والأرقام في سجلاتها. هي تذكير بأن الرياضة تستطيع أن تكسر الجدران التي تبنيها السياسة، وأن فكرة بسيطة من رجل صحافة لبناني يمكن أن تتحول إلى مساحة عابرة للدول والأجيال.
حين تنطلق صفارة البداية في قطر، الأسبوع المقبل، لن يبدأ موعد كروي جديد فحسب، بل ستنهض روح ناصيف مجدلاني، وستقف بيروت في الصفوف الأولى، تراقب من بعيد وتقول للعرب جميعًا: "هذه فكرتي… لا تتركوها تموت".
نبض