مغامرة عالمية بين صخور تنورين: مركز التسلق الذي وضع لبنان على خريطة الرياضات الجبلية

في قلب جبال تنورين المهيبة، حيث تنساب مدرّجات الزيتون والتفاح على سفوح خضراء تحتضنها الطبيعة الصامتة، نشأت مغامرة فريدة حوّلت هذه القرية الهادئة في قضاء البترون إلى وجهة دولية لعشّاق التسلق والمغامرة.
لم تعد تنورين مجرّد محطة محلية أو بلدة جبلية تقليدية، بل أصبحت بفضل جهود مستمرة واستثمار رؤيوي، مركزاً معتمداً لرياضة التسلق في الشرق الأوسط، ومعلماً سياحياً يتقاطع فيه شغف الرياضة مع روح الطبيعة.
في عام 2012، أطلق مشروع طموح بالشراكة بين بلدية تنورين، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، ومنظمة RAD، بهدف تحويل الموقع الطبيعي إلى مساحة مؤهلة لرياضة التسلق وفق المعايير العالمية. وقد نتج عن هذا المشروع تجهيز 144 مساراً صخرياً في مرحلته الأولى، قبل أن يتوسّع لاحقاً ليشمل 180 مساراً تغطي مستويات متنوّعة تلائم المتسلقين من مختلف الأعمار والقدرات.
وفي حديث خاص لـ"النهار"، تصف ريتا بكاسيني، الناشطة البيئية ومديرة مشروع تطوير رياضة التسلق الصخري- تنورين، هذا التحوّل قائلة: "تنورين لم تعد فقط مكاناً للتسلّق، بل أصبحت مساحة تلتقي فيها الرياضة مع البيئة ومع تاريخ المنطقة ونقطة جذب للمتسلقين من حول العالم والمقصد الأول في الشرق الأوسط لعشاق رياضة التسلق، فكل مسار صخري هنا يحمل في طيّاته تجربة إنسانية عميقة، ويعكس هوية هذه الأرض."
ويمتد سحر تنورين إلى ما هو أبعد من الرياضة، فالمكان يقدّم تجربة سياحية متكاملة. على ضفاف نهر الجوز، تنتشر المطاعم والمقاهي الريفية التي تقدّم مأكولات تقليدية وسط مشهد طبيعي يأسر الأبصار. أما المغامرون، فتشدّهم الجدران الصخرية الشاهقة التي تدعوهم إلى اختبار قدراتهم وخوض تجربة لا تُنسى.
وتؤكد بكاسيني: "هذا المركز أصبح جزءاً من نسيج تنورين الاجتماعي والاقتصادي. السياحة المرتبطة بالتسلّق تعزّز اقتصاد البلدة، وتوفّر فرصاً لسكانها، وتعيد ربط الإنسان بالأرض بطريقة أصيلة وملهمة."
وتضيف قائلة: "من أبرز المعالم التي تستقطب المتسلّقين جرف "شير الريباز"، أحد أقدم وأهم مواقع التسلّق في لبنان. يتميّز هذا الجرف بتضاريسه المتنوّعة، ومساراته المتعدّدة الأطوال (Multipitch)، ومنحدراته الحادة التي تمنح المغامرين مشهداً بانورامياً مدهشاً عند بلوغ القمم. وقد جرى تطوير هذا الموقع في تسعينيات القرن الماضي من خلال تدريبات مشتركة بين الجيش اللبناني والجيش الفرنسي".
الوصول إلى هذا الجرف يتطلّب المرور بطريق ترابي، ثم مسار مشي يستغرق نحو نصف ساعة للوصول إلى القطاعات الصخرية، حيث تتوالى المسارات بانسيابية مدروسة تعكس تنوّع الجيولوجيا المحلية.
"ما يميّز صخور تنورين هو تكوينها من الصخور الجيرية (Limestone)، التي تعد من الأفضل عالمياً لرياضة التسلق، لما توفّره من خصائص تقنية مثالية، منها:
-ثبات ومتانة عالية تضمن قبضة آمنة.
-تشكيلات طبيعية متنوّعة من تجاويف وشقوق وحواف.
-سطح ذو درجة احتكاك مناسبة للتثبّت.
-سهولة التثبيت الآمن للمعدّات المعدنية مثل المسامير ونقاط الارتكاز".
وترى بكاسيني أن هذا الامتياز الجيولوجي ليس مجرد ميزة طبيعية، بل قاعدة انطلقت منها هوية المركز، وتضيف: "صخور تنورين ليست فقط جميلة، بل هي مثالية من الناحية التقنية، وتشكّل عنصر جذب أساسي للمتسلّقين المحترفين."
إحدى القصص الرمزية التي يحتضنها الموقع، هي قصة "جورج مسعود"، أحد أبناء البلدة، الذي كان يتسلّق الصخور حافي القدمين لصيد السمان وإعالة أسرته. وقد أُطلق اسمه على أحد المسارات تخليداً لروحه المغامرة، بينما لا يزال منزله الحجري قائماً حتى اليوم عند سفح الجرف قرب دير مار يعقوب، ويعتقد أنه من أقدم البيوت المأهولة في لبنان.
اليوم، يشكّل مركز التسلق في تنورين نموذجاً ناجحاً لكيفية تحويل الموارد الطبيعية إلى رافعة تنموية وسياحية مستدامة، من دون المساس بهويتها البيئية. ففي هذه البقعة، حيث تلتقي الرياضة بالتاريخ، وتتماهى المغامرة مع الجمال، تتحوّل كل خطوة وكل قبضة على الصخر إلى فصل من رواية إنسانية نابضة بالإلهام.