أرشيف الحنين... فيليب جبر يحكي لبنان بالصورة والحلم

حمل فيليب جبر لبنان معه إلى أصقاع الدنيا، كغصّةٍ لا تهدأ وحنين لا يبرد. أربعون عاماً من الغربة، بين نيويورك وباريس وجنيف، لم تُطفئ فيه الشغف بوطنٍ أحبّه كما يُحبّ الإنسانُ بلاده الأولى... بعنف، وبلا شروط. لم يُغره المجد المهني وحده، بل ظلّ يبحث عن وجه لبنان الجميل بين الأزمنة، جامعاً فتات ذاكرته، قطعةً قطعة.
واليوم، في ركنٍ هادئ من المتحف الوطني في بيروت، يُعرض جزءٌ من مجموعته الواسعة عن ملصقات السفر في "جناح نهاد سعيد للثقافة". هناك، لا تكتفي الملصقات القديمة بأن تُزيّن الجدران... بل تهمس كأنها أرواحٌ تعود من حقبة مجيدة، تروي حكاية بلدٍ يُلقَّب بـ"سويسرا الشرق". من عشرينيات القرن الماضي حتى سبعينياته، يمتدّ هذا الأرشيف البصري الذي لا يُقدَّر بثمن، لأنه ليس مجرد مجموعة فنية... بل نبض حنينٍ صامت، كتبه جبر عبر الصور كي لا يُنسى لبنان.
وعن طريق الحجز في المتحف الذي يملكه في بيت شباب، يمكن رؤية آلاف اللوحات والرسوم والصور وغيرها.
ولد فيليب جبر عام 1960 في بيروت، في زمنٍ كان فيه لبنان لا يزال يعزف سيمفونية الحياة بجمالها وفرادتها. وعندما بلغ السادسة عشرة، حمله القدر بعيداً... إلى عالمٍ آخر، إلى مناخات مغايرة، لكنّه حمل معه صورة لبنان كما أحبّه، وقرّر أن يُعيد رسمها، قطعةً قطعة، في كلّ ما أنجزه في غربته الطويلة.
فيليب، الذي تلقّى علومه بين لبنان وكندا وأميركا، كان يرى أن الهجرة تصهر البشر في قالب المساواة. "في الغربة، لا امتيازات لأحد. كلّنا نبدأ من الصفر"، يقول. لكن رغم نجاحاته التي لاحقته من نيويورك إلى جنيف، بقي الحنين إلى لبنان جمرة تحت جلده لا تبرد.
الفنّ بلغة الوطن
"التاجر المحظوظ هو من يجمع ربما لوحات بيكاسو، ثم يشهد سوقها طفرة. لكن لو لم يكن يجمعها بحبّ، لما استفاد منها"... بهذه البساطة يروي جبر شغفه بالفن. لكنه لم يجمع من أجل الربح، بل من أجل الذاكرة. من أجل لبنان الذي أراده أن يبقى حيّاً، لا فقط في الصور، بل في وجدان الناس.
مجموعة جبر الفنّية ليست متحفاً. إنها شريط حياة. ملصقات سفر، وأفيشات أفلام، وإعلانات قديمة لشركة طيران الشرق الأوسط ووزارة السياحة، تحكي عن زمنٍ كان فيه لبنان مقصد الحالمين. بيروت، بعلبك، جعيتا، البحر، الأرز، السهر... كلّها تطلّ من وراء الورق كأنها تقول: نحن هنا، لا تنسونا.
حينما عاد إلى فيلا العائلة في قرية "بوا دو بولون" أو "بولونيا"، كانت الجدران تصرخ من الألم. الفيلا التي احتلّها النظام الأمني السوري وتحوّلت إلى مقرّ مراقبة، بدت كأنها صورة مصغّرة عن الوطن الجريح. لكن فيليب لم يلتفت إلى الخراب، بل رأى فيها بذرة حياة. سبع سنوات من الترميم، أكثر من 10 ملايين دولار، و120 حرفياً أعادوا النبض إلى قلب من حجر. "أردت أن أقول إن لبنان يمكن أن ينهض"، يهمس.
واليوم، الفيلا، المحاطة بألف صنوبرة وياسمين وخزامى، تحتضن فنّاً وهدوءاً وصلاة.
ألمازة... الجذور لا تموت
من المشاريع الأقرب إلى قلبه، كان تملّكه الغالبية في شركة "ألمازة"، معمل البيرة اللبناني التاريخي. لم يفعلها طمعاً بربح، بل رغبة في إعادة المؤسسة إلى حضن العائلة بعد تسعين عاماً. "ألمازة ليست مجرّد بيرة... إنها ذكرى"، يقول.
ومن جعيتا إلى القبيّات، ومن حفلات الصيف إلى دعم السياحة، لا يتردّد فيليب في القول: "بلدنا يجب أن يبقى منفتحاً على الخارج، ويجب أن يعود مقصداً للعالم".
ومنذ تأسيس "جمعية فيليب جبر الخيرية" عام 2001، تُمنح مئات المنح التعليمية والمساعدات الطبية والاجتماعية بصمت، من دون أضواء. "مساعدة الآخرين هي أهم نجاح يمكنك تحقيقه على الإطلاق"، قالها مرة، وبقيت تضيء الطريق.
يحب مساعدة الشباب، يؤمن بالعدالة الاجتماعية، ويؤكّد أن المجتمع لا يُبنى بالرواتب وحدها، بل بالثقافة والتعليم والكرامة.
وعلى رغم مسيرته المالية الباهرة، التي جعلته يُلقّب بـ"أسطورة صناديق التحوّط"، اختار البروفسور دكاش أن يمنحه لقباً آخر: "مبشّر التضامن الاجتماعي".
ربما لأن فيليب جبر يُشبه اللبناني الجميل، ذاك الذي لا يزال يؤمن بالحبّ والضوء والكرامة. رجلٌ يرى أن السياحة، والثقافة، والمؤسسات، كلها حلقات في سلسلة واحدة: "إذا مرض عضو من الجسد، يسقم الكلّ".
ولعلّه لهذا السبب بالذات، بقي جبر، رغم كلّ شيء، يحاول أن يُرمّم ما انكسر. أن يجمع ما تبعثر. أن يعيد رسم الوطن، من جديد، ملصقاً بعد ملصق... وحنيناً بعد حنين.