نهر الجوز... روح الطبيعة وحارس الطواحين القديمة والقلاع

يتسلّل نهر الجوز بهدوئه العذب في قضاء البترون، ويمرّ ببعض تخوم الكورة، فيرسم مجراه كأنه نقشة في صخر الزمن، ينساب بين الجبال والسهول، ويتظلّل أشجار الجوز التي حمل اسمها. هو أكثر من نهر... هو رحلة متواصلة في قلب الطبيعة والتاريخ والمستقبل.
ينبع هذا النهر من أعالي قضاء البترون، ويتدفق لمسافة تقارب الثلاثين كيلومتراً، يعبر فيها القرى والمروج، ويسقي بساتين التين والزيتون والحمضيات، قبل أن يصبّ في البحر المتوسّط. وعلى طول مجراه، يقف كنهر شاهِد على حياةٍ تعدّدت وجوهها: من الطبيعة البكر، إلى الطواحين القديمة التي ما زالت بقاياها تحرس الضفاف، إلى القلاع التي أقيمت لحماية الطريق الساحلي، وعلى رأسها قلعة المسيلحة.
السير على دروب نهر الجوز ليس مجرّد نزهة، بل دعوة إلى الغوص في مشهد حيّ، وإلى المساهمة في حفظ طبيعته وإرثه التاريخي. تتنوّع المسارات على ضفافه، منها درب ينطلق من مجرى نهر جاف وصولًا إلى المياه الجارية، حيث تلتقي الطواحين والجسور الحجرية بصوت الخرير الهادئ. وهناك درب المسيلحة الذي يبدأ من القلعة ويمتد بمحاذاة النهر، ودرب كفتون التاريخي الذي يقود إلى دير سيدة كفتون الأرثوذكسي المنحوت في الصخر، محاطاً بأشجارٍ كالزيتون والحمضيات.
في كفرحلدا، يتّخذ النهر مشهداً أكثر درامية، إذ يتدفّق ليشكّل شلال كفرحلدا الشهير، أحد أجمل شلالات لبنان. تتساقط المياه من علوّ شاهق في مشهد يخطف الأنفاس، بينما تنبض "بساتين العصي" بالحياة الريفية وحقولها الخصبة التي تسقيها مياه النهر.
التنوّع البيئي على ضفاف نهر الجوز لا يقلّ سحراً، من أشجار السنديان والجوز التي تؤوي أعشاش العصافير، إلى النباتات والزهور البرّية التي تتبدّل مع المواسم، فتلوّن الضفاف وتملأ الهواء بالعطر. وبين الكهوف والأودية الجانبية، تجد بعض الكائنات البرّية مأوى هادئاً في هذا الركن الطبيعي النادر. في الربيع، يتحوّل كل شيء إلى مشهد مكتمل من الحياة: ألوان، وروائح، وأصوات تنبعث من الأرض نفسها.
ولأن الطبيعة لا تكتمل من دون الإنسان، تتكامل التجربة مع المطاعم الريفية التي تتوزّع على ضفاف النهر لتقدّم أطباقاً لبنانية تقليدية بطابع محلي أصيل. هناك، يبدو نهر الجوز وكأنه شريان حياة يربط الأرض بالناس، والمكان بالذاكرة، والطبيعة بنكهاتها الحقيقية.
على نهر الجوز، لا تخطو فقط في دربٍ طبيعي، بل في رواية مفتوحة من الجمال. هو المكان الذي يعود فيه الإنسان إلى ذاته، بعيداً عن ضجيج المدن، فيلتقي سحر الأرض، ويُصغي إلى همس الشجر ورقصة الضوء على سطح الماء. هو لبنان… كما يجب أن يُروى وكما يجب أن يُصان.