بين الحجر والكلمة: حضور العرب في قلب أوروبا
في كل زاوية من شوارع غرناطة القديمة أو ممرات قرطبة المظلّلة بالأقواس، ثمة صدى لحضارةٍ عربية لم تغِب فعلاً عن أوروبا، بل ما زالت تنطق بالحجر والزخرفة واللغة. فالحضور العربي في القارة لم يكن عابراً ولا محصوراً بكتب التاريخ، بل ترك أثراً واضحاً في ملامح مدنٍ ما زالت، حتى اليوم، تتنفّس من ذاكرة الأندلس.
بدأت القصة عام 711 ميلادية، عندما عبر طارق بن زياد البحر من المغرب إلى شبه الجزيرة الإيبيرية. ما حدث بعدها لم يكن مجرّد توسّع عسكري، بل ولادة مرحلة امتزجت فيها الثقافات والأديان والعلوم. على مدى ثمانية قرون، أصبحت الأندلس مركز إشعاع علمي وثقافي ومعماري. من هنا، انتقلت الفلسفة والطب والرياضيات إلى أوروبا اللاتينية، لتُمهّد لاحقاً لعصر النهضة.

في قرطبة، التي كانت يوماً من أعظم مدن العالم، يمكن تخيّل الحياة في أوجها: شوارع مضاءة، حمّامات عامة، ومكتبات تضم مئات آلاف المخطوطات. في قلبها، يقف المسجد الكبير بقبابه وأقواسه المزدوجة كتحفة معمارية تجمع بين الإتقان الإسلامي والذوق الأوروبي. واليوم،ب رغم تحوّله إلى كاتدرائية، لا يزال واحداً من أكثر المعالم التي تروي حكاية التعايش والعبقرية المعمارية.

على بُعد ساعات جنوباً، تقف غرناطة كأجمل ختام للحضارة العربية في أوروبا. في قصر الحمراء، ما زالت الجدران تنطق بالعربية المنقوشة، والنوافير تروي أناقة الهندسة الإسلامية. عند التجوّل في حيّ البيازين، يصعب التفريق بين ما هو تراثي وما هو حيّ: رائحة الشاي بالنعناع، نغم العود في المقاهي، والسياح الذين يتنقّلون بين الأزقة وكأنهم يعبرون بين قرونٍ من التاريخ.

وفي إشبيلية، يتجلّى الأثر العربي بطريقة مختلفة. المدينة التي كانت يوماً مركزاً أموياً في الغرب، أصبحت اليوم موطناً للفلامنكو — موسيقى يُجمِع المؤرخون على أن جذورها تعود إلى مزيج من التأثيرات العربية والأمازيغية والإسبانية. برج “الخيرالدا”، الذي كان مئذنة في الأصل، ما زال يطلّ على المدينة شاهداً على تداخل الثقافات. حتى طراز البيوت بأفنيتها الداخلية ونوافيرها الصغيرة يحمل روح العمارة الدمشقية التي عبرت البحر قبل قرون.

أما طليطلة، فهي قصة أخرى عن العلم والمعرفة. في القرون الوسطى، تحوّلت المدينة إلى ورشة ترجمة ضخمة نقلت آلاف الكتب من العربية إلى اللاتينية، ففتحت أمام أوروبا أبواب الطب والفلك والهندسة التي طوّرها العلماء المسلمون. اليوم، تبدو طليطلة مثل كتابٍ مفتوح على كل العصور، حيث تتجاور الكنائس والمساجد والكنس في مشهدٍ يعكس التنوع الذي شكّل روح الأندلس.

بعيداً من إسبانيا، تكشف باليرمو في جزيرة صقلية الإيطالية وجهاً آخر للحضور العربي في أوروبا. في القرن التاسع، كانت المدينة تحت الحكم الفاطمي مركزاً مزدهراً للعلم والزراعة. القصور مثل “لا زيزا” و“كوبا” ما زالت تحتفظ بزخارفها العربية، واللغة الصقلية نفسها لا تزال تحمل مئات المفردات ذات الأصل العربي، من “زيتو” إلى “كرومو”. هذا الإرث المعماري واللغوي جعل من باليرمو محطة لا بد من زيارتها لكل من يريد أن يرى كيف يمكن للحضارات أن تلتقي لا أن تتصادم.

وفي البرتغال، يظهر الأثر العربي في أدق التفاصيل. العاصمة لشبونة مثلاً، تخفي بين أحيائها القديمة أسماء عربية واضحة: ألفاما المأخوذة من “الحمّة”، ألمادا من “العمادة”، والقصبة التي تعود إلى “القصر”. حتى اللغة البرتغالية نفسها تحمل أكثر من ألف كلمة من أصول عربية مثل: azeite (زيت)، arroz (أرز)، almofada (وسادة)، alfaiate (خياط)، almirante (أمير البحر)، وalface (خس). هذا الامتزاج اللغوي ليس تفصيلاً لغوياً، بل شاهد على قرونٍ من التواصل الفكري والثقافي.

أما في فالنسيا، فالحضور العربي يأخذ شكلاً عملياً أكثر، فأنظمة الريّ التي وضعها المزارعون العرب قبل ألف عام لا تزال تعمل حتى اليوم، وتشرف عليها مؤسسة تُعرف باسم “مجلس الماء”، الذي يجتمع أسبوعياً منذ القرن الحادي عشر لتنظيم توزيع المياه بين المزارعين. هذا النظام الذي صنّفته اليونسكو تراثاً إنسانياً، يمثل نموذجاً مبتكراً في العدالة البيئية والإدارة المستدامة.

وعلى الساحل الجنوبي لفرنسا، تعكس مرسيليا وجهاً حديثاً للصلة بين العالم العربي وأوروبا. فمنذ العصور الوسطى، كانت المدينة بوابةً للتجارة والتبادل مع المشرق والمغرب، ومع الهجرة المغاربية في القرن الماضي أصبحت مرسيليا مدينة متوسطية بامتياز. في أسواقها الشعبية ومقاهيها، تمتزج اللغة الفرنسية بلكنة عربية، وتختلط روائح البهارات بالياسمين، لتقدّم مثالاً حياً على التفاعل الثقافي المستمر بين ضفّتي المتوسط.
في النهاية، هذه المدن ليست مجرد وجهات سياحية، بل محطات في رحلة طويلة من التأثير المتبادل. الحضور العربي في أوروبا لم يكن طارئاً، بل جزءاً من نسيجها الثقافي. ومن يتجوّل اليوم بين شوارع غرناطة أو أزقّة لشبونة أو أحياء مرسيليا، يكتشف أن الشرق لم يغب يوماً عن الغرب، بل ما زال يعيش فيه، في اللغة، في الحجر، وفي الذاكرة.
نبض