اعترافات امرأة على الخشبة... ندى أبو فرحات لـ"النهار": كسرتي تشبه كسرة الوطن
لمعت الإضاءة الخفيفة على الخشبة كأنّها تفتح باباً سرّياً إلى غرفة اعتراف. لا موسيقى صاخبة، ولا ديكور مبالغاً به. فقط كرسيّ متحرّك، عكّازان، وامرأة قرّرت أن تدخل المسرح كما دخلت الألم: بلا أقنعة.
هكذا ظهرت الممثلة اللبنانية ندى أبو فرحات في عرضها "آخدة كسرة" على مسرح "لا سيتي – جونيه". امرأة ليست في دور، بل في واقع. ليست في حالة تمثيل، بل في حالة مواجهة. مواجهة مع قدمها المكسورة، ومع بلد يشعر منذ سنوات أنّه يسير على عكّاز واحد.
منذ اللحظة الأولى، بدا الجمهور كأنّه يدخل معها إلى حفرتها، تلك التي سقطت فيها عندما سُرق غطاء الريغار في أحد الشوارع البيروتية. حفرة تشبه حفرة الوطن الذي يعيش في "كسرة" دائمة.
لكن ندى لم تأتِ لتشكو. جاءت حكواتية من زمن جديد، تتعمّد أن تجعل الوجع مادّة للضحك، والضحك مرآة للوجع.

جلست على كرسيّها، ثبّتت قدمها المجبّرة، ونظرت إلى الجمهور كما ينظر من يفتح قلبه أمام أصدقائه. تقول في حديث لـ"النهار": "هذه المرّة الأولى التي لا أمثّل فيها. إنّها المرة الأولى التي أظهر فيها كما أنا، كـ ندى، أتحدّث كإنسانة لا كامرأة في دور، وكأنني أخاطب أصدقاء مقرّبين".
ثم تضيف بابتسامة تخفي ألماً واضحاً: "المفارقة أنّني كنتُ هذه المرة جالسة على خشبة المسرح لأنني لا أستطيع الوقوف... ومن هنا بدأ الاختلاف".
كانت تلك الجملة المفتاح. الجمهور فهم أنّه أمام امرأة قرّرت أن تُعرّي قصّتها، وأن تقدّم ألمها كما هو: طازجاً، ساخناً، لم يبرد بعد. كانت جلسة علاج جماعي، على حدّ تعبير أبو فرحات.
ولم يكن سقوطها في الريغار حادثاً عرضياً، بل رمزاً. تقول: "إنّ حفرتي تشبه حفرة البلد، وإنّ كسرتي تشبه كسرة الوطن. مهما وصفتُ ما حدث معي، فإنّه يشبه ما يحدث مع البلد كله. الشعب هو من يحاول أن يعيد الوطن إلى قدميه".
في "آخدة كسرة"، لا تتحدث ندى عن ساق مكسورة فحسب، بل عن جسد امرأة يمرّ بمراحله البيولوجية والنفسية التي يفضّل المجتمع تجاهلها.
صرّحت بجرأة: "لا خجل في النضوج، ولا في الهرمونات، ولا في سنّ اليأس، ولا في المراهقة. كلّنا نمرّ بهذه المراحل، والحديث عنها يخفّف وطأتها. فإن احتضنتِ هذه الأحاسيس وشاركتِها مع من حولك، صار الأمر أسهل. وإذا استمع إليكِ الجيل الجديد والرجال تحديداً، فإنّ في ذلك نشراً للوعي".
لهذا، شعرت النساء أنّها تتحدث من داخلهن كأنّها تمنح كل امرأة حقّها في الاعتراف بما يشعر به جسدها وروحها.
أما اختيارها مسرح "لا سيتي- جونيه"، فلم يكن قراراً عابراً. تشرح: "فكرة المسرحية تتمحوَر حول الأمل بإعادة التأهيل، بوضع الأمور في مكانها الصحيح. أحببت هذا المكان لهذا السبب. كانت تجربتي فيه مرتبطة بمسرح الأطفال سابقاً، وكان المسرح جميلاً جداً، يحمل نوعاً من الحنين، يذكّرك بلبنان القديم، بلبنان الثقافة عندما كان البلد كلّه يتحدّث بالفن والشعر. ولهذا كان خيارنا مهمّاً جداً. وبعدي سيأتي مسرحيون آخرون، وستستمر الحركة المسرحية فيه. بدأنا من خلال هذه المسرحية، والسبحة ستكرّ بأعمال مقبلة لزملاء آخرين قريباً".
وعن شراكتها مع زوجها المخرج إيلي كمال، تقول: "عندما أرسلتُ إليه النص بالبريد الإلكتروني، قلتُ له: إذا لم يعجبك فلا مشكلة. لكنه عاد سريعاً وقال: في هذا النص قدرة على أن يتحوّل إلى عمل مسرحي. من هناك بدأنا. كتبنا مسوّدات كثيرة، وعملنا طويلاً حتى وصلنا إلى هذه النسخة".
وتضيف بتقدير واضح: "إيلي هو الأساس... هو الشريك الحقيقي. الدعم، الإيمان، والقدرة على رؤية الألم وتحويله إلى فن... كل هذا جمعنا".
ندى اليوم ما زالت في رحلة العلاج. تقول: "ما زال أمامي خمسة أشهر من التعافي، ولكن الوجع تحوّل إلى فن".

"آخدة كسرة" هي عن وطنٍ مكسور، وعن امرأة قرّرت أن تقول الحقيقة بصوت عالٍ. عن سقوط في حفرة صنعتها اللامسؤولية، وعن نهوض بكرامة امرأة لا تريد للمشهد أن ينتهي عند الألم.
ومن يشاهد المسرحية، يخرج شاعراً أنّ ندى لم تكسر قدمها... بل كسرت الصمت.
وستعود "كسرتها" إلى المسرح في عرضين جديدين يومي السبت والأحد (22 و23 تشرين الثاني/نوفمبر) لكن هذه المرة على خشبة مسرح مونو – الأشرفية.
نبض