من ياسمين تونس إلى أضواء روما… وداعاً كلوديا كاردينالي

في رحيلها، تبدو كلمات كلوديا كاردينالي كأنها مرآة لحياتها المليئة بالسينما والحلم والحرية. لم تكن مجرّد ممثلة، بل امرأة صنعت من الغموض جمالاً، ومن الصمت قوة، ومن السينما وطناً يضم آلاف الحيوات.
قالت يوماً: " لم أشعر أن الفضائح أو الاعترافات شرط كي أكون ممثلة… الغموض هو الأهم". كان الغموض عندها سحراً يحفظ صورتها من الابتذال، ويجعل حضورها أبديّاً، لا يذبل مع مرور السنوات.
ولم تكن السينما عندها مجرد مهنة، بل قدراً: " لقد عشت آلاف الحيوات، لا حياتي وحدها". كانت كل شخصية ترتديها حياة جديدة، وكل فيلم نافذة أخرى على العالم. وربما لذلك بقيت في ذاكرة عشّاقها، امرأة يصعب حصرها في دور واحد أو زمن واحد.
ومثل كل الكبار، أدركت الثمن: "للعمل في التمثيل عليك أن تكون قوياً في أعماقك... وإلا ضيعت شخصيتك وهويتك". كانت القوة عندها هدوءاً داخلياً، صلابة خلف الابتسامة، وإصراراً على ألا تخضع لرياح الاستغلال أو التكرار.
وفي مزحة خفيفة عكست روحها الحرة، قالت: "السينما تشبه الرجال قليلًا… كلما تجاهلتهم أكثر، سعوا إليك أكثر". جملة تختصر جرأتها، ووعيها بأن السحر لا يُفرض، بل يُكتشف.
ولم تخجل من بداياتها، بل احتفظت بها بعفوية نادرة: "لم أنطق بكلمة إيطالية حتى بلغت الثامنة عشرة… في أول أفلامي اضطروا لدبلجة صوتي!"، ومن تلك البدايات البسيطة ولدت أيقونة عالمية.
ورغم أن شهرتها طبعت ذروة السينما الإيطالية والعالمية، لم تنسَ كلوديا جذورها الأولى. فقد وُلدت في تونس عام 1938، حيث تنفست البحر الأبيض المتوسط وعاشت طفولتها بين أحياء العاصمة. هناك، في ربيع شبابها، تُوجت بلقب ملكة جمال تونس عام 1957، حدثٌ بدا بسيطاً في حينه، لكنه كان الشرارة التي دفعتها نحو روما لتصبح أيقونة على الشاشة الكبيرة. بقيت تونس بالنسبة إليها أكثر من محطة عابرة، بل هي الأرض التي منحتها ذاكرة الطفولة ووهج البدايات، قبل أن تفتح لها السينما الإيطالية أبواب المجد العالمي.
ورغم كل ما أعطته للسينما، بقيت امرأة تنحاز إلى القيم الأعمق: " بشغف وإخلاص، سأبقى منصتة إلى احتياجات النساء، وأقاتل بلا هوادة من أجل حقوقهن". هكذا كانت، ممثلة وناشطة، فنانة وامرأة، أنيقة في حضورها، جريئة في قناعاتها.
ومع تقدّم السنوات، ظلّت كلوديا كاردينالي وفيّة لصورتها كسيّدة من زمن السينما الذهبي. لم تُخفِ ملامح العمر، بل حملتها بفخرٍ وهدوء، معتبرة التجاعيد امتداداً للذكريات لا عيباً يجب إخفاؤه. في شيخوختها، لم تفقد بريق العينين اللتين أسرَتا جمهور العالم، بل أضاف الزمن إليهما لمسة حكمة وحنين.
وعلى امتداد مسيرتها، وقفت أيقونة السينما أمام كاميرات أعظم المخرجين، لتخلّد اسمها في ذاكرة السينما العالمية. فقد أدهشت الجمهور في فيلم "كلاريتا" ورائعة فيديريكو فيلّيني "فتاة الحقيبة"، وأثبتت حضورها القوي في فيلم "حدث ذات مرة في الغرب" لسيرجيو ليوني، والقط الداكن" و"عالم السيرك" و"المأزق اللعين". كما تألقت في تحفة لوشينو فيسكونتي "الفهد" إلى جانب برت لانكستر وآلان ديلون، وهو الفيلم الذي جعلها وجهاً أيقونياً للسينما الإيطالية في الستينيات. لم تكن مجرد ممثلة جميلة على الشاشة، بل امرأة حملت تنوّع الأدوار من الدراما التاريخية إلى الكوميديا والرومانسية، تاركة وراءها رصيدا فنّيا يروي حكاية نجمة ولدت في تونس وطبعت السينما الأوروبية والعالمية.
رحلت كاردينالي، لكن كلماتها تبقى كأضواء شاشة قديمة، تنبض بالحنين وتضيء الذاكرة. لقد عاشت كما حلمت، بصدقٍ وغموض، وبحريّة جعلتها أيقونة لا تغيب.