"صوت الأرض" طلال مدّاح... أيقونة عابرة للزمن
من بين أصوات الجزيرة العربية، يبقى طلال مدّاح أيقونة متفرّدة، ليس بحضوره وحده، بل بتأثيره العميق الذي امتدّ من سحر الأغنية إلى عمق الهوية الثقافية. لم يكن "صوت الأرض" مجرّد مطرب، بل مؤسس لمدرسة موسيقية أعادت تعريف الغناء السعودي والعربي، فاختلط صوته بالذاكرة الجمعية وأصبح مرادفاً للصدق والدهشة.
وُلد طلال في زمن لم يكن فيه للفن مرجعية محلية واضحة، فشقّ طريقه بحدسه الغنائي، متنقلاً من محاكاة الطرب الحجازي إلى تأسيس أسلوب غنائي يمزج النغمة الخليجية بالمقام العربي الكلاسيكي. أغنياته لم تكن لحناً وصوتاً فحسب، بل مشروع وجداني عبّر عن الإنسان في حيرته وشوقه وانكساره.
بعد 25 عاماً على رحيله، لا يزال صوته حاضراً. يتسلّل فجأة من جلسة طربية، أو مقطع "هيب هوب"، أو خشبة مسرح، من دون أن يبدو خارج السياق. وهذا الحضور ليس مجرد استدعاء نوستالجي، بل استمرار لفن لا يشيخ.
وإذا كانت الأيقونة لا تفنى، بل تُعاد قراءتها وتوظيفها، فإن المفاجأة التي حملها عالم الموسيقى أخيراً أكّدت أن صوت طلال مدّاح لا يزال يجد طريقه إلى الحاضر، بأشكال غير متوقعة.

في أغنية بعنوان "So Be It"، استعان ثنائي الهيب هوب الأميركي Clipse، بمقطع من أغنية طلال "ماذا أقول" (1977)، من كلمات فتى الشاطئ وألحان محمد عبد الوهاب.
المنتج الموسيقي فاريل ويليامز المعروف بشغفه بالموسيقى العربية الكلاسيكية استخدم صوت مدّاح بطريقة ذكية، حيث تتكرر جملة "ماذا أقول" بتقطيع إيقاعي، ويُستعاد فاصل الكمان الشهير للأغنية كعنصر صوتي مركزي.
هكذا، يدخل طلال مدّاح الذاكرة السمعية لجيل جديد، بلغة موسيقية مختلفة، من دون أن يفقد شيئاً من جوهره.
يعلّق الكاتب والصحافي السعودي أحمد عدنان على أيقونية طلال مدّاح قائلاً: "لم يكن تحوّله إلى أيقونة فنية مجرّد مصادفة، بل ثمرة تضافر عوامل إنسانية وفنية استثنائية. فقد اتّسم بشخصية بسيطة ومتواضعة وكريمة، لم تغيّرها الشهرة ولا أضواء النجومية، وحقق نجاحات متواصلة عبر عقود طويلة، حافظ خلالها على روحه الفنية الأصيلة".
ويضيف: "قدّم تجربة متفردة ومختلفة عن السائد، امتزج فيها التجريب بالمغامرة، والفن للفن، مع اعتبارات السوق. كما أن اعتراف رموز الموسيقى العربية الكبار به، أمثال محمد عبدالوهاب، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، وتلحينهم له، عزّز من مكانته الفنية".

ويتابع: "على مستوى الأغنية الخليجية، شكّلت أعماله مع أسماء كبيرة مثل بدر بن عبدالمحسن، ولطفي زيني، ومحمد العبدالله الفيصل، من ألحان سراج عمر أو ألحانه الشخصية، محطات متقدمة على عصرها. ثم جاءت وفاته الدرامية على مسرح المفتاحة لتمنح سيرته بعداً أسطورياً، وتعيد الأجيال الجديدة اكتشافه كفنان عابر للزمن".

صاغ طلال لونه الموسيقي من دون أن يسجن نفسه فيه. غنّى بـ"العود" وبالفرقة الكاملة، واختبر النص الغنائي الحجازي كما اختبر الشعر الفصيح.
فرائعة "مقادير" لم تكن مجرد ضربة حظ، بل عمل متكامل عَبَر الحدود. اللحن شجيّ تتخلله فواصل موسيقية تنقل المستمع من ضفة إلى أخرى، والصوت محمّل بشحنات العاطفة والخذلان، والكلمات تتّكئ على بساطة تعبيرية تعكس عمق التجربة العاطفية الخليجية، كتبها الأمير محمد بن عبد الله الفيصل ولحنها سراج عمر. وفي "الله يرد خطاك " تتجلى النبرة الحنونة، في ما يلامسنا في "زمان الصمت" بحكمة المتأمّل، أما "أرفض المسافة" فتكاد أن تكون صرخة رجل في وجه الغياب.
أيقونية طلال مدّاح لم تُبْنَ على الكاريزما أو الحضور المسرحي، بل على ثقل المضمون وجمال الصوت. هو "فنان الناس"، بلا ادعاء، والوحيد الذي أسقط الحواجز بين القصيدة واللحن، بين المثقّف والبسيط، بين التراثي والحداثي.
لم يكن طلال "صوت الأرض" فقط، بل صوت ما بين الأرض والروح، عاشقاً مجبولاً على الألم والصدق. مات على المسرح (11 آب/أغسطس)، كما ولد عليه، واقفاً كأنه يغنّي للسماء. وكأن رحيله كان ختاماً لجملة لحنية بدأت قبل ستين عاماً، ولم تنتهِ بعد.
نبض