مهرجان البحر الأحمر الرابع: محاولة لتكريس ثقافة السينما

ثقافة 18-12-2024 | 11:55

مهرجان البحر الأحمر الرابع: محاولة لتكريس ثقافة السينما

انتهت قبل أيام قليلة الدورة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي (5 - 14 الجاري). 121 فيلماً قصيراً وطويلاً من أصقاع الأرض كافة، عُرضت في هذا الحدث السينمائي الذي يواكب منذ مطلع العقد الحالي انفتاح السعودية على فنون الترفيه والاستعراض، بعدما كانت مستبعدة ومحظورة طوال عقود.
مهرجان البحر الأحمر الرابع: محاولة لتكريس ثقافة السينما
من حفل افتتاح مهرجان البحر الأحمر السينمائي الرابع.
Smaller Bigger

تتويجاً لمرحلة جديدة، وتعبيراً عن رغبة في جعل جذور السينما تضرب في الأرض، انتقل المهرجان إلى مقر جديد، "ميدان الثقافة"، في جدة التاريخية حيث عُقدت الدورة الأولى، وذلك بعد دورتين أقيمتا في فندق ريتز كارلتون الفخم. البقعة المستحدثة جاءت ببعض القطيعة مع مظاهر البهرجة والترف المبالغ فيها، من خلال موضعة الحدث في بيئة أكثر "تواضعاً"، تنتج علاقة عضوية مع الواقع، ولو ان الكثير من البهرجة والترف لا يزالان قائمين بحكم وجود السجّادة الحمراء التي تفرض تقاليدها أينما أُلقيت.  

المركز التجاري، "مول البحر الأحمر"، الذي كان مسرحاً للكثير من العروض ومحجّاً لكلّ مَن رغب في المشاهدة بعيداً من الصخب، أصبح هو أيضاً من الماضي. فالميدان أصبح يؤوي العروض كافة والعديد من النشاطات مثل الماستركلاسات التي استعانت هذا العام بقامات سينمائية كبيرة بعضها أضيف في اللحظة الأخيرة، في حين تولّى المخرج الأميركي سبايك لي رئاسة لجنة التحكيم (وأعطى درساً ثانياً بعد درس عام 2022). صالات بمواصفات عصرية ودقّة تقنية عالية، بالاضافة إلى أماكن تتيح التجمّع والجلوس، حولّت المكان إلى نقطة لقاء يومية متكررة بين الضيوف والمشاهدين والناس جميعهم. على بُعد خطوات من الميدان، حديقة للسهرات تصدح منها الموسيقى وسوق أفلام يدور فيها العديد من الصفقات. اللافت ان الصالات شهدت تزايداً ملموساً في عدد المشاهدين مقارنةً بالأعوام الثلاثة الماضية. هناك جهد يبذله المهرجان لجذب الشباب واطاحة المفاهيم التي ارتبطت طويلاً بالشاشة. مع ذلك، لا يزال المشوار طويلاً، وطويلاً جداً، لتكريس الثقافة السينمائية وجعلها جزءاً من ثقافة البلاد والناس. وهذا يحتاج إلى العمل الجدي وطول الأناة والاستمرارية. 

 

المخرج المصري كريم الشناوي، صاحب "ضي" خلال الافتتاح. 

 

"ضي (سيرة أهل الضي)" للمخرج المصري كريم الشناوي، افتتح دورة كان فيها هذا العام العديد من الأفلام المصرية الواعدة. الفيلم عن طفل نوبي صاحب صوت جميل، يتعرض على الدوام للتمييز والتنمّر بسبب مظهره المختلف. بعد تخلّي والده عنه، لا يبقى أمامه سوى ان يحلم باقتفاء أثر المغنّي محمّد منير. ما ان يحصل ضي على فرصة للمشاركة في برنامج "ذا فويس"، حتى ينطلق هو وعائلته في رحلة محفوفة بالأخطار من أسوان إلى القاهرة، يتخلّلها العديد من التحديات والكفاح من أجل البقاء، بيد ان العزيمة الثابتة بالإضافة إلى صوت ضي، يدفعان بأفراد العائلة إلى الأمام.

عشرة أيام (اليومان الأخيران مخصّصان للجمهور فقط) من الاشتباك مع حكايات تأتينا من العالم أجمع، بالاضافة إلى الخروج الطوعي من المكان والزمان، انتهت بفوز الفيلم التونسي "الذراري الحمر" للطفي عاشور بجائزة أفضل فيلم (من بين 16 فيلماً تسابقت على الجوائز). يتحدّث الفيلم عن مراهق يرعى الغنم مع ابن عمّه في شمال تونس، ويتعين عليه فجأةً اعادة رأس هذا الأخير إلى عائلته، بعد أن يقطعه الإرهابيون. فيلم طرد المشاهدين من جنّة المهرجان إلى بشاعة العالم الذي نقيم فيه.  

 

المخرج التونسي لطفي عاشور الفائز بجائزة أفضل فيلم.

 

مَن لا يرغب في الاطلاع على المزيد عن "البحر الأحمر"، فليتوقّف عند هذا الحد. الأسطر التي سبقت، ليست أكثر من مقدّمة على سبيل اجراء مسح شامل لتظاهرة سينمائية يمكن الكتابة عنها مطولات. المشكلة ان زحمة المهرجانات العربية المجتمعة في هذه الفترة من العام، تمنعنا من الخوض في المزيد من التفاصيل. وأعني بتلك المهرجانات: وهران والجونة والقاهرة و"أجيال" (الدوحة) ومراكش والبحر الأحمر (جدة) وقرطاج. كانت "النهار" حاضرة في معظم هذه المحافل الدولية طوال الأسابيع الماضية للكتابة عن كلّ ما التقطته فيها من مستجد ومثير. 

أما مَن يرغب في الولوج إلى بعض التفاصيل والملاحظات حول الدورة الرابعة، فسيجدها حتماً. يكفي التمعّن في العديد من الحوارات المفتوحة مع كبار أسماء الفنّ السابع، وفي هذا الشأن لدينا العديد من الملاحظات. الجمهور لا يزال، بلا شك، مستجيباً للقاء شخصيات سينمائية يأتون إلى المملكة، وبلغ عددها في هذه الدورة 23 اسماً على الأقل، وهذا عدد ربما لم يصل اليه أي مهرجان في السابق. مبادرة لا بد انها استهلكت الجزء الأكبر من الموازنة. أذكر هنا بعضاً من هؤلاء: ميشال يو، كاثرين زيتا جونز، سارا جسيكا باركر، براندن فرايزر، مايكل مان، جيريمي رينر، فيولا دايفس وغيرهم. هذا بالاضافة إلى نجوم من الهند وتركيا، وبعضنا ممّن يمارس النقد السينمائي منذ عقود لم يسمع عنهم قط. لكن السؤال الأساسي يبقى: هل تمت الاستفادة من حضور هؤلاء أفضل استفادة؟ وهل بدأ المعنيون يدركون انه بعد ذيوع صيت المهرجان دولياً إلى حد معين، ما عاد من المقبول ان تقتصر نشاطات النجوم على المرور فوق السجّادة الحمراء والتقاط الصور الترويجية؟

 

المخرج الأميركي سبايك لي رئيس لجنة التحكيم.

 

شأن آخر ينبغي مناقشته في ضوء مشاركة هذا الكم من الضيوف: تصريحات بعضهم لا تروي الظمأ في بعض الأحيان، اذ نشعر ان الحذر الشديد سيد الموقف عند بعضهم، حذر الانوجاد في بلد لا يعرفون فيه ما هو السقف التعبيري المسموح به. أما عملياً، فصالة "أوديتوريوم" الضخمة التي استضافت بعض الماستركلاسات (دوغلاس وفرايزر) كان فيها الكثير من الكراسي الشاغرة، وحال حجم المكان الضخم دون توفير جو حميمي بين الفنّان والجمهور. في العامين الماضيين، يوم كانت هذه اللقاءات تجري في قاعات المول الصغيرة، حدث تدافع وزحمة وفوضى، فساد جو من الحميمية جراء ذلك. لا يمكن ان أنسى مثلاً الدرس السينمائي الذي قدّمه جاكي تشان وسط هرج ومرج. 

مع ذلك، لا يمكن الا ان نقر بأن الإتيان بكلّ هذه الأسماء، مع ما تمر به المنطقة من خضّات أمنية متسارعة (سقط نظام الأسد خلال انعقاد الدورة)، أشبه بضربة معلّم، لكن هذا يجب ألا ينسينا ان درس مايكل مان السينمائي كان أشبه بفضيحة، لأن الرجل بدلاً من التحدّث عن مسيرته في مجملها، أصر على الترويج وبطريقة فجّة لموقع إلكتروني أنشأه يحتوي على أرشيف فيلمه الأخير "فيراري" الذي شارك صندوق المهرجان في دعمه. حتى عندما انتقل من المونولوغ الى الحوار، ظلّ يركّز في حديثه على "فيراري"، مع التفاتة خجولة إلى أفلامه الأخرى. ولكن، ماذا لو انوجد من بين الحضور مَن لم يشاهد هذا الفيلم أصلاً؟ ولماذا، بدلاً من "حرارة"، أشهر أفلامه الذي لم يتناوله المخرج في حديثه إلا بشكل عرضي، لم يخطر في بال المنظّمين عرض "فيراري"، كي يصبح الحديث عنه ذا معنى وفائدة.      

 

مايكل دوغلاس وكاثرين زيتا جونز في جدة.

 

على مستوى تشكيلة الأفلام المختارة، هناك كلام كثير يُقال في هذا الشأن، مع التأكيد ان هامشاً من سوء الفهم والوقوع في فخ التنظير، قد يحدث، خصوصاً عندما يتحدّث الناقد من دون ان يكون قد شاهد مجمل الأفلام المعروضة، وهي مهمّة مستحيلة. 

توزّعت الأفلام التي عُرضت في هذه الدورة على أقسام وفقرات عدة. في المقدّمة، نجد المسابقة التي تُعتبر واجهة المهرجان، ثم يأتي "اختيارات عالمية" (تسمية عجيبة وكأن الأفلام الأخرى "محلية" مثلاً، مع التذكير بتفاهة تسميات مثل "محلية" و"عالمية"). بالاضافة إلى قسمين ثالث ورابع يحملان عنواني "روائع عربية" و"روائع عالمية"، وذلك رغم ان بعض الأفلام المعروضة في هذين القسمين لا يمت إلى الروائع بصلة. أضف أيضاً: مسابقة الأفلام القصيرة، والسينما السعودية الجديدة في شقيها القصير والطويل، المسلسلات، رؤى البحر الأحمر، السينما العائلية، وأخيراً كنوز البحر الأحمر. كلّ قسم من هذه الأقسام من المفترض انه يحمل خصوصية معينة، ولو ان الخصوصيات هذه قابلة للانصهار في ما بينها.

 

سارا جسيكا باركر تلتقي جمهور البحر الأحمر.

 

اذا أعفينا تشكيلة الأفلام العربية المختارة من أي قراءة نقدية لمستواها وجدواها، وذلك لكونها خاضعة لمبدأ المحدودية والشحّ، فلا يمكن في المقابل التعامل مع الأفلام التي تأتي من خارج العالم العربي، بالمنطق عينه. فهناك كمّ هائل من الأعمال تخرج من المصنع السينمائي كلّ عام، ومن حق المشاهدين ان "يحاسبوا" المبرمجين على خياراتهم. صحيح ان مجمل البرنامج لا يفتقر في بعض فقراته إلى ما هو جميل ومهم ومختلف ومميز، لكن يسود انطباع عام عند المشاهدين منذ دورات سابقة، بأن العناوين متشابهة إلى حدّ كبير، وكأنها تنهل من الينبوع نفسه، كما لو كان المبرمجون يريدون فرض ذوق أوحد إنطلاقاً من فهم متعنّت للسينما وماهيتها، من دون أي اعتبار للتنوع الذي يُعتبَر من أساسيات أي تظاهرة سينمائية. 

معظم أفلام المهرجان مصدره آسيا وأفريقيا والمنطقة العربية، وذلك في تجاهل شبه تام لسينمات غربية (أوروبية وأميركية) كثيرة. العام الماضي، صرّح كليم أفتاب (المسؤول عن البرمجة الدولية)، بأنه يعرف متطلّبات الجمهور السعودي، وهو الانطباع الذي يخرج به مَن يعاين تشكيلة الأفلام المختارة. هناك احساس بأن المبرمج يختار نيابةً عن المُشاهد السعودي، متماهياً مع رغباته أو ما يعتقدها رغباته. النتيجة: موجة من الأفلام لسينمائيين جدد غير معروفين، لا يزالون في تجاربهم الأولى أو الثانية، سينما قضايا تمتد بشكل خاص من أقصى آسيا إلى مجاهل أفريقيا مروراً بالشرق الأوسط، وهذا كله يأتي على حساب سينمات ينتظرها المشاهدون السعوديون، وتشكّل أحياناً أولوية لديهم. 

 

"فيراري" لمايكل مان.

 

ليست هناك في مهرجان البحر الأحمر، كما في كلّ المهرجانات، قدرة على مشاهدة أكثر من عدد محدود من الأفلام، خصوصاً ان معظم العروض جرياً للعادة في الخليح تنطلق بين بعد الظهر والعصر. ولأن أفلام المسابقة غير "مضمونة"، يتّجه كثر من المشاهدين إلى أفلام سمعوا وقرأوا عنها عقب مشاركتها في مهرجانات كبيرة ككانّ والبندقية. وهكذا تفرّغ الواحد منّا إلى مشاهدة "كلب أسود" لغوان هو، الفيلم الصيني الفائز بجائزة "نظرة ما" في مهرجان كانّ الأخير، وهو عن حبّ الكلاب وانقاذها (اذا جاز اختصاره هكذا)، يتبلور في سياق عمل مشغول بإتقان يضمن الحركة والتوتر المتواصلين. صحيح، نحتاج إلى شيء من الجهد لمواكبته بمستوى الحماسة نفسه الذي عند الشخصيات، لكن كلّ شيء في الفيلم يشير إلى ان مخرجه، سيكون أحد الأسماء البارزة في السينما الصينية. فيلم آخر من أفلام كانّ، كان له وقع معين على البعض منّا: "سانتوش" للمخرجة البريطانية الهندية سانديا سوري (رشّحته الهند لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي). عن أرملة تضطر إلى استلام وظيفة زوجها في الشرطة، بعد موته، وذلك كي لا تخسر منزلها، لكن المشاكل الكثيرة التي تتعرض لها، ستغدو مناسبة لنكتشف تلك الهند التي لا نراها في أفلام بوليوود. 

فيلم الختام استعاره "البحر الأحمر" من مهرجان سان سيباستيان السينمائي: "مودي، ثلاثة أيام على حافة الجنون" لجوني ديب، عن جزء من حياة الرسّام الإيطالي الشهير أميديو موديلياني، خلال فترة البوهيمية التي عاشها في باريس. يظهر الفيلم كيف انه لم ينل التقدير المستحق الا بعد رحيله. جوني ديب الذي لا تزال تداعيات الدعوى القضائية التي رفعتها عليه زوجته السابقة تلاحقه، كان شارك بهذا الفيلم في المهرجان الإسباني الشهير، غير ان أصداءه لم تكن إيجابية. لكن هذا لم يمنع المهرجان من استضافته والاحتفاء به، بحضور جوني ديب. للأسف، توقيت العرض المتعارض مع ترتيبات رحيلي من جدة، حال دون مشاهدتي له.

 

"كلب أسود" مستعاد في جدة بعد كانّ.

 

أخيراً، أضحى المهرجان طوال الدورات الأربع الماضية، منبراً للسينما السعودية. مجدداً، فإن تسمية الفقرة بـ"السينما السعودية الجديدة" غير موفّقة، ذلك انها تشير إلى ان هناك سينما سعودية قديمة ويأتي الأحدث ليجددها أو يدفع بها إلى الأمام، كما في حال الموجة الفرنسية الجديدة أو الواقعية الإيطالية الجديدة، الخ. أياً يكن، 22 فيلماً قصيراً و4 أفلام طويلة، هي المحصلة التي خرجت بها السينما المحلية من هذا المهرجان، وهي سينما، كثر يعقدون عليها آمالهم.

 

جوني ديب وفريق عمل فيلمه الأحدث في البحر الأحمر. 

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/8/2025 3:44:00 AM
أقدم شقيق النائب الأردني السابق قصي الدميسي على إطلاق النار من سلاح رشاش تجاه شقيقه عبد الكريم داخل مكتبه، ما أدى إلى وفاته على الفور.
اقتصاد وأعمال 10/8/2025 7:17:00 PM
ما هو الذهب الصافي الصلب الصيني، ولماذا هو منافس قوي للذهب التقليدي، وكيف سيغير مستقبل صناعة المجوهرات عالمياً، وأهم مزاياه، وبماذا ينصح الخبراء المشترين؟
النهار تتحقق 10/8/2025 9:20:00 AM
إعلان مفرح من محمد شاكر خلال الساعات الماضية. "صدر حكم ببراءة والدي، فضل شاكر"، وفقاً للمتناقل. فيديو تكشف "النّهار" حقيقته.  
سياسة 10/8/2025 1:16:00 AM
تمام بليق يوضح حقيقة ما جرى مع الشيخ حسن مرعب في صيدا