دمّرت حرّرت وانتقمت… هكذا امتدّت النيران إلى السينما

ثقافة 14-01-2025 | 10:24

دمّرت حرّرت وانتقمت… هكذا امتدّت النيران إلى السينما

النار، في وجهها المزدوج، قدّمت إلى السينما مجالاً واسعاً للابتكار
دمّرت حرّرت وانتقمت… هكذا امتدّت النيران إلى السينما
”القربان“ لأندره تاركوفسكي.
Smaller Bigger

إلى أي درجة تذكّر حرائق كاليفورنيا بمشاهد سبق ان شاهدناها في السينما؟ فبعض ما أنتجته من صور يتجاوز كلّ ما خرجت من مخيلة السينمائيين. ما عادت الحياة تقلّد الفنّ فحسب، بل ترفع من سقف الخيال، من دون ان ننسى ان الذكاء الاصطناعي يضطلع بدور في جعل الحدود بين الحقيقة والخيال متداخلة وغير واضحة. هذا كله دافع للعودة إلى الكيفية التي جسّدت السينما النار، في بُعدها الجمالي وعمقها الفلسفي.   

اتّخذت النار على الشاشة أدواراً متنوعة ومتناقضة. أحياناً كانت طاقة أساسية، رمزاً للإرادة والبقاء والصمود، كما رأينا في "حرب النار" لجان جاك آنو، حيث تمثّل النار اكتشافاً يغيّر مجرى الحياة. وفي أحيان أخرى، برزت كقوة لا تعرف الرحمة، تدمّر كلّ شيء في طريق تمدّدها، كما هي الحال في "الجحيم الشاهق" لجون غيليرمان، الذي يحكي عن حريق كارثي يلّف ناطحة سحاب.



”أيام الجنة“ لترنس ماليك.

 

النار، في وجهها المزدوج، قدّمت إلى السينما مجالاً واسعاً للابتكار. فهي ليست مجرد عنصر بصري يجتاح الشاشة بألوانه الصارخة وألسنته ولهيبه، بل رمز متعدّد الدلالات. أحياناً تأتي كنعمة تعزز الحياة وتدفعها إلى الأمام، وأحياناً أخرى تتحوّل إلى نقمة تنشر الدمار وتخلق المآسي. وهكذا، تجاوزت النار دورها كخلفية للأحداث لتصبح شخصية في ذاتها، تساهم في تشكيل الحبكة وتحريك المشاهدين بين مشاعر الأمل والرعب.

لنأخذ اشتعال الحقول في مواجهة أسراب الجراد في "أيّام الجنة"، رائعة ترنس ماليك. في هذا المشهد الذي أبدع مدير التصوير الإسباني نستور ألمندروس في تصويره، تتحوّل النار إلى لغة بصرية عميقة تربط السطح بالجوهر، وتكشف عن الأزمات الخفية التي تعيشها الشخصيات. يمتد المشهد (يستغرق نحو سبع دقائق)، ليعبّر عن العلاقة المتوتّرة بين الإنسان والطبيعة، حيث النار، المقصودة لإبعاد الجراد، تتحوّل إلى رمز للغضب المتفجّر. الطبيعة التي كانت حاضنة للحياة تنتفض فجأةً، وكأنها مرآة للمشاعر المكبوتة والانفعالات المستعرة. في لحظة الحريق، يصل الفيلم إلى ذروته الدرامية، فيمتزج البُعد الجمالي بالدلالة الدرامية، مما يجعل الأحداث تتسارع نحو النهاية الحتمية. ماليك، المعروف بقدرته على أضفاء بُعد فلسفي على المشهد، يجعل من هذا المشهد تجسيداً لرؤيته السينمائية. الصرخة الشهيرة لسام شيبارد "اتركوها تحترق"، تحمل بين طياتها كلّ الغضب والقهر، لتكون النار هنا وسيلة للتحرر، وكأن الاحتراق شرط لا بد منه للوصول إلى الخاتمة.

من الصعب أيضاً ان تغيب عن الأذهان تلك اللحظة المفصلية في "ستُهرق الدماء" لبول توماس أندرسون، حين تتفجّر الأرض فجأةً أثناء التنقيب عن النفط، مطلقةً مخزونها الأسود الذي يحوّل المشهد إلى مثابة جحيم على الأرض. رجالٌ يركضون في كلّ إتجاه، تائهين أمام ما يحدث، بينما يشعر المُشاهد بالذهول ذاته، وكأن اللحظة تبتلع الجميع في دوامة من الفوضى والرعب. أندرسون يلتقطها كحد فاصل في السرد. النار هنا ليست مجرد كارثة؛ إنها رمز مزدوج للنجاة وللمحنة. المشهد الإيقاعي، بما يحمله من عتمة ودخان، يُغرق الفيلم في حالة من التوتّر والرهبة، ليؤسس لانقسام زمني واضح: ما قبل الانفجار وما بعده. هذا الانفجار المروّع أصبح أيضاً محوراً للقراءات الرمزية، حيث رآه البعض صراعاً بين جشع الرأسمالية وجموح الطبيعة. إنها لحظة توتّر بين الإنسان والحدود التي يفرضها الكون.

 

 

”كاري“ لبراين دبالما. 

 

ليست كلّ النيران السينمائية رمزاً للدمار والمصائب. هناك نيران تخدم أبطال القصّة أو ضحاياها، تقف إلى جانبهم، وتتحوّل إلى أداة تحرر أو انتقام. من أبرز الأمثلة: المشهد الأيقوني في "كاري" لبراين دبالما. عندما تنقلب حياة الفتاة المسكينة كاري رأساً على عقب بسبب مؤامرة حيكت ضدها، تتحوّل النيران إلى وسيلة للتعبير عن غضبها المكبوت. في لحظة مشحونة، تشتعل النار في المرقص، لتصبح امتداداً لروحها. هذه ليست مجرد خلفية للحدث، بل عنصر نشط يساعدها في فرض سيطرتها الكاملة على المشهد مانحاً إياها الفرصة للخروج بكرامتها. هذا الحريق، الذي يختتمه دبالما بحضور رجال الإطفاء، يُظهر عبقريته في استخدام النار كوسيلة لتهدئة الصراع، بدلاً من تصعيده.

في "ستأتي النيران" لأوليفيه لاكس، تُسرَد حكاية تبدو مألوفة، عن حرائق الغابات. لكن لاكس يأخذ هذا الموضوع الكلاسيكي إلى مرتبة عالية من التأمل العميق منتصراً للطبيعة من خلال العلاقة المتوتّرة بين الإنسان والبيئة. القصّة عن رجل متّهم بافتعال الحرائق، يُسجَن نتيجة أفعاله، ثم يعود بعد إطلاق سراحه إلى قريته الجبلية النائية في محاولة لبدء حياة جديدة. لكن هذا السلام لن يدوم طويلاً، إذ تندلع حرائق مدمّرة تلتهم المنطقة وتعيد إلى الواجهة الصراع القديم بين الإنسان والطبيعة. يُفتتح الفيلم بمشهد مذهل: غابة تتهاوى أشجارها ليلاً، وكأن الطبيعة تنتقم ببطء وحزم. هذا المشهد التمهيدي ليس مجرد عنصر بصري، بل يضع أسساً درامية للعلاقة المشحونة بين سكّان المنطقة والطبيعة المحيطة بهم التي تعيش تحت تهديد دائم بالنيران.

 

”زمن الغجر“ لإمير كوستوريتّسا. 

 

الفيلم شبه وثائقي عن حرائق الغابات، حيث تبدو المشاهد واقعية إلى حد كبير، ممّا يمنح العمل طابعاً أصيلاً ويعكس دقّة لاكس في استحضار التفاصيل. هذه ليس فقط قصّة عن الدمار، بل استكشاف للعلاقة المعقّدة بين البشر والنظام البيئي الذي يتشاركونه، حيث الطبيعة، في لحظات غضبها، تفرض وجودها بقوة لا يمكن تجاهلها.

للنار حضور مهيب في السينما، أحياناً بوصفها تجسيداً للشر المطلق. مثالان بارزان يعكسان هذا الاستخدام هما "آلام جانّ دارك" لكارل دراير و"فهرنهايت 451" لفرنسوا تروفو. في "آلام جانّ دارك"، يصوّر دراير لحظة اعدام القديسة الفرنسية حرقاً برؤية إخراجية تعكس الرهبة دون إفراط بصري. من خلال استخدام الأبيض والأسود، يقل أثر الحريق على الشاشة، إذ ينصب التركيز على تعابير وجه الممثّلة رينيه فالكونيتي، التي تُظهر الألم والخوف بعمق إنساني. بدلاً من مشاهد اللهب، يجعلنا دراير نرى الدخان المتصاعد، في محاولة لنقل مأساة جانّ دارك كصراع داخلي وروحي، أكثر منه حدثاً. 

في "فهرنهايت 451"، تأخذ النار بُعداً رمزياً آخر. في هذا العالم الديستوبي الذي ألّفه الكاتب البريطاني راي برادبري، تصبح النار أداة السلطة لإحكام قبضتها على المجتمع، حيث يكلَّف رجال الإطفاء مهمّة معاكسة تماماً لدورهم المعتاد: البحث عن الكتب وإحراقها لمنع انتشار المعرفة. النار هنا ليست فقط وسيلة تدمير، بل رمز للجهل المفروض قسراً، في مواجهة شغف الإنسان بالمعرفة.

في كلا الفيلمين، تتجاوز النار باعتبارها ظاهرة مادية لتصبح تعبيراً عن قوى أكبر: الاضطهاد، القمع، ومقاومة الإنسان للظلم. إنها ليست مجرد وسيلة للتدمير، بل كيان يحمل معاني عميقة عن السلطة والألم والرغبة في الحرية.

ولا يمكن تجاهل المشاهد الاستثنائية التي تنسجها النار في السينما، خاصةً عندما تتقاطع مع عناصر الطبيعة لتخلق لوحات سينمائية تبقى في الذاكرة. في فيلم "زمن الغجر" لإمير كوستوريتّسا، يتحول المزج بين الماء والنار إلى قصيدة بصرية آسرة. في مشهد لافت على ضفاف النهر عند الشفق، يحتشد الناس لممارسة طقس قديم بينما تصدح أغنية "إدرليزي". السماء تشتعل باللون الأحمر، انعكاساً للنيران التي تملأ الأفق، وكأن المشهد يستدعي الذاكرة الإنسانية الجماعية، حيث النار كانت عنصراً مقدّساً منذ العصور الوثنية.

في "القربان" لأندره تاركوفسكي، تُسند إلى النار وظيفة وجودية. في المشهد الختامي، نرى البيت الشهير وسط الطبيعة يلتهمه اللهب، بينما شخص يحاول الوصول إليه، لكنه يسقط عاجزاً، مستسلماً لجبروت النار. اللقطة الطويلة التي ترصد انهيار البيت تحوّلت إلى لحظة ملحمية، تلخّص الحياة وتحدياتها، لكنها تظهر أيضاً قوة المشهدية السينمائية. إنها ليست مجرد لقطة، بل وداع مؤثّر من شاعر السينما. مع تاركوفسكي، أصبحت النار وسيلة لسبر أغوار الروح الإنسانية. 








 

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 11/22/2025 12:24:00 PM
حرّر محضر بالواقعة وتولّت النيابة العامة التحقيق.
اقتصاد وأعمال 11/20/2025 10:55:00 PM
الجديد في القرار أنه سيتيح للمستفيد من التعميم 158 الحصول على 800 دولار نقداً إضافة إلى 200 دولار عبر بطاقة الائتمان...
سياسة 11/20/2025 6:12:00 PM
الجيش اللبناني يوقف نوح زعيتر أحد أخطر تجّار المخدرات في لبنان
سياسة 11/22/2025 12:00:00 AM
نوّه عون بالدور المميّز الذي يقوم به الجيش المنتشر في الجنوب عموماً وفي قطاع جنوب الليطاني خصوصاً، محيّياً ذكرى العسكريين الشهداء الذين سقطوا منذ بدء تنفيذ الخطّة الأمنية والذين بلغ عددهم 12 شهيداً.