سوء التغذية يضرب أطفال لبنان... أرقام ومعطيات مؤلمة
هو أخطبوط الأزمات الذي وصلت ذراعه إلى الأطفال. عبء حمل بعضهم أوزاره جراء تدهور الوضع المعيشي منذ الأزمة الاقتصادية التي ضربت لبنان قبل ست سنوات، وما تلاها من تفشٍّ لفيروس كورونا، وصولاً إلى الحرب الإسرائيلية التي ما زالت مستمرّة حتى اليوم.
ما يجري بحق نسبة كبيرة من أطفال لبنان، لا يمكن وضعه في خانة نقص الطعام فقط، بل هو خلل في نوعية الغذاء وما قد يترتب عليه من تأثيرات على النموّ والصحّة.
وفيما يُحتفل بيوم الطفل العالمي في 20 تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام، ومع تفاقم تدهور الوضع المعيشي، أصبح سوء التغذية عند الأطفال مرآة لأزمات أخرى يعيشها اللبنانيون. ضعف في جودة الأغذية المتاحة وتدنّي القدرة الشرائية، انهيار في الخدمات الصحية، وتراجع في الوعي والممارسات الغذائية، ما يرسم صورة سوداوية لمستقبل الطفولة في لبنان.
ماذا، متى، وكيف يأكل الأطفال في لبنان؟
سؤال نطرحه باعتبار أنّ ما يتناوله الأطفال في عمر معيّن، هو أهم ما قد يحصلون عليه في أي مرحلة عمرية أخرى في حياتهم.
باختصار، لا يحصل آلاف الرضّع والأطفال في لبنان على التغذية التي يحتاجون إليها للبقاء على قيد الحياة والنموّ.
ففي ظلّ تنامي الأزمة الاقتصادية التي تخنق العائلات وتغرقها في براثن العوز، اختزلت بعض العائلات الوجبات الغذائية لتوفّر ثمنها، وتكتفي بوجبة واحدة في اليوم. وهناك من تخلّى عن تناول اللحوم والدجاج والسمك والألبان والأجبان وحتى الخضر، وصارت موائدهم لا تحتوي على غير الخبز وبعض البقول كالعدس والبرغل. ومن يعجز عن تأمين الحليب لطفله، يتحايل عليه بالماء والسكّر أو الماء مع الأرزّ المطحون.
هذا الواقع اليومي الصعب يذكّرنا بأهمّية تطبيق بنود اتفاقية حقوق الطفل. فبحسب المادة 24 من اتفاقية حقوق الطفل، من حق الطفل التمتّع بأعلى مستوى صحّي يمكن بلوغه، على أن تبذل الدول الأطراف قصارى جهدها وتتّخذ التدابير المناسبة من أجل مكافحة الأمراض وسوء التغذية حتى في إطار الرعاية الصحّية الأولية.
معطيات صادمة ومؤلمة
تقول مسؤولة التغذية وتنمية الطفل في اليونيسف جويل نجار في حديث إلى"النهار": "قمنا بدراسة معمّقة حول واقع التغذية في لبنان، في عام 2023، كانت الحرب الإسرائيلية قد اندلعت في الجنوب، وقدّمنا تقييماً شاملاً للوضع في مختلف المناطق اللبنانية. ما أظهرته البيانات هو أن لبنان اليوم يواجه أزمة تغذية، لكن ليس بالشكل التقليدي الذي نراه في بعض دول أفريقيا مثل سوء التغذية الحادّ، بل بأشكال متعدّدة".
قصّة نور و"المجدّرة"
بدلاً من أن تعود نور، وهي أم لطفلين، إلى المنزل تحمل أكياساً من الخضار والفواكه والدجاج وعلبة حليب، تحاول إقناعهما بأن "المجدّرة" تجعلهما قويّين.
تفكر "ماذا سأطهو اليوم لأطفالي"؟ وبالرغم من أنها تدرك أن الخيارات محدودة، تحاول هذه السيدة تأمين ثمن الخبز والماء والبقول والزيت وجرّة الغاز، فما يجنيه زوجها يوزّع بين أجرة منزل والمصاريف الشهرية ولا يبقى لتأمين الغذاء إلا ما ندر.
ثلاثة أنماط رئيسية من سوء التغذية
تسلط دراسة اليونيسف الضوء على هذا الواقع عبر تحديد ثلاثة أنماط رئيسية من سوء التغذية:
– الأول سوء التغذية الذي يظهر في شكل الهزال أي إنّ الطفل نحيف جداً بالنسبة إلى طوله، والتقزّم أي أن يكون الطفل قصيراً بالنسبة إلى عمره.
– الثاني هو نقص في العناصر والمكملات الغذائية الأساسية مثل الفيتامينات والمعادن الضرورية لنموّ الأطفال وينجم عنه فقر دم.
– أما الثالث، وهو الأهم بحسب دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية، فهو الزيادة في معدّلات السمنة والبدانة لدى المراهقات، وحتى لدى النساء غير الحوامل.
ما خلصت إليه الدراسة، أن نسبة الرضاعة الطبيعية الحصرية (من عمر 0 إلى 6 أشهر) شهدت انخفاضاً من 32% عام 2021 إلى 23% عام 2023، وهذا مؤشر مقلق، بحسب مسؤولة التغذية وتنمية الطفل في اليونيسف التي تشدّد على أن المنظمة تشجع كثيراً على الرضاعة الطبيعية، لما لها من أثر كبير في حماية الطفل وتعزيز نموّه.
أما بالنسبة إلى التغذية التكميلية، أي إدخال الأغذية الصلبة للأطفال، فقد أظهرت البيانات أن 75% من الأطفال بين 6 أشهر وسنتين يعتمدون على غذاء محدود التنوّع، غالباً على الخبز أو الأرزّ، مع نقص في استهلاك الخضر والفواكه واللحوم بسبب ضعف القدرة الشرائية لدى الأسر.
وفي ما يتعلق بالتقزّم (قصر القامة بالنسبة إلى العمر)، فقد ارتفعت النسبة من 7% عام 2021 إلى 14% عام 2023، وهو مؤشر إلى سوء تغذية مزمن لدى الأطفال، تقول نجّار.
أما بالنسبة إلى البدانة، فتعاني 30% من المراهقات في لبنان زيادة في الوزن أو السمنة، وأكثر النسب تسجَّل في الفئة العمرية بين 10 و12سنة. و72% من المراهقات اللواتي شملتهنّ الدراسة يعانين نقصاً في المكمّلات الغذائية، إذ تبيّن أن 20% منهنّ مصابات بفقر الدم، و30% يعانين نقصاً في الحديد. و54% من الفتيات والنساء في سنّ الإنجاب يعانين فقر دم أو زيادة في الوزن أو السمنة.
اختزال الوجبات
وبالعودة إلى الواقع اليومي، تظهر حالات كثيرة مشابهة لقصّة نور، ومنها حالة زينة.
هي أم لطفل، تخلّت عن كثير من أصناف الطعام. فالدجاج واللحوم والأسماك لم تدخل روتين مطبخها الأسبوعي منذ سنتين بعدما خسر زوجها متجره في جنوب لبنان من جرّاء الحرب الإسرائيلية.
تقول: "طعامنا يرتكز على الحبوب مثل المجدّرة والبرغل مع بندورة أو البرغل مع حمّص وأحياناً بطاطا مقليّة". وهذه الأصناف تتكرّر طيلة الشهر.
تُظهر هذه المؤشرات أن مشكلة التغذية في لبنان ليست فقط في نقص الغذاء، بل في نوعيته أيضاً، حيث تتعايش السمنة مع سوء التغذية المزمن ونقص المكملات الغذائية في مختلف المناطق اللبنانية، والنسب أعلى في الشمال والبقاع وبعلبك، وحتى في بعض مناطق جبل لبنان. أمّا في المخيّمات الفلسطينية وعند اللاجئين السوريين، فالمشكلة أكثر حدّة.
وقد عملت اليونيسف خلال فترات الأزمات والحروب، على دعم وزارة الصحّة من أجل تأمين الغذاء والمكمّلات الغذائية للأطفال، خصوصاً للنازحين، ورُصدت بالفعل حالات سوء تغذية.
ضرائب على المشروبات الغازية والأطعمة المصنّعة
في محاولة لإبراز أهمّية تخصيص موازنات للحماية والتغذية، تشرح نجّار بعض الخطط التي تعمل عليها المنظمة لعام 2026 عبر إعداد دراسات وطنية لقياس العبء الاقتصادي الناتج من سوء التغذية بأشكاله كافة، لما له من أثر مباشر على الاقتصاد اللبناني وعلى النظام الصحّي، وخاصّة أن السمنة تؤدّي إلى أمراض مزمنة مثل ارتفاع الضغط والكوليسترول وأمراض القلب، ما يرهق موازنة الدولة.
وهناك خطة لفرض ضرائب على المشروبات الغازية والأطعمة المصنّعة التي تؤثر مباشرة في سوء التغذية، بهدف الحدّ من استهلاكها وتشجيع الخيارات الصحّية.
تعمل المنظمة مع وزارة التربية لإطلاق برنامج توعوي حول التغذية السليمة في المدارس الرسمية، يشمل تدريب المشرفين الصحّيين ليقوموا بنشاطات توعوية للطلاب والأهالي.
ومن ضمن خطة عمل اليونيسف، مشروع بحثي بالشراكة مع وزارة الاقتصاد يتناول تسويق الأغذية غير الصحّية للأطفال والمراهقين.
وتشمل الدراسة تحليل أساليب التسويق المستخدمة في كبريات السوبرماركت والدكاكين في لبنان، إلى جانب مقابلات مع الأهل والمراهقين ومديري المتاجر.
من المتوقع أن تكتمل هذه الدراسة في أوائل عام 2026، وستقدّم صورة واضحة عن تأثير التسويق التجاري على أنماط التغذية والسمنة في المجتمع اللبناني.
أمّا في ما يخصّ الأطفال من عمر 0 إلى 5 سنوات، فالتعاون قائم مباشرةً مع وزارة الصحّة لدعم مراكز الرعاية الصحّية الأولية، ولتدريب العاملين في الخطوط الأمامية على تقديم المشورة الغذائية ورصد حالات سوء التغذية.
وخلال الحرب الأخيرة، أدّت مراكز الرعاية الصحية دوراً أساسياً في الاستجابة، بدعم من اليونيسف التي وفّرت اللوازم الغذائية والمكمّلات للأطفال والنساء الحوامل، إضافة إلى فرق طبّية متنقلة للوصول إلى المناطق المتضرّرة جنوباً وبقاعاً.
أغذية أرخص ثمناً لكنّها منخفضة الجودة
من جانب آخر، باتت الأسر تختار الأغذية الأرخص ثمناً لكنها منخفضة الجودة، وهذا قد يكون سبباً من أسباب ارتفاع معدّلات السمنة لدى الأطفال.
وتوزيع الحليب الصناعي عشوائياً، بشكل غير مباشر، قد يدفع بعض الأمّهات إلى التوقّف عن الإرضاع الطبيعي بسبب توافر الحليب المجاني.
وبينما تعمل اليونيسف وشركاؤها على دعم الحكومة اللبنانية والسلطات المحلّية، للحدّ من الآثار، يبقى مستقبل آلاف الأطفال اللبنانيين معلّقاً بين الفقر وسوء التغذية.
نبض