الإنفاق الاجتماعي في لبنان تحت ضغط الأزمات... حنين السيد لـ"النهار": خطة وطنية للتمويل المستدام
"قدّمت كل الأوراق المطلوبة ولم أحصل على أيّ مساعدة، مع أنّ وضعي أصعب من كثيرين حولي قد استفادوا. أشعر أن التوزيع غير عادل ولا توجد شفافية في العمليات"... يقول فادي سكيكي (عامل يومي) عن معاناته مع برنامج المساعدات النقدية. في المقابل، ترى رنا عزالدين، (موظفة سابقة فقدت عملها خلال الأزمة)، أن المساعدات بدأت تصل بانتظام: "تأخّر شمول اسمي لفمدة طويلة، ولكن بعد التدقيق الأخير بدأت المساعدات تصلني. قد يبقى هناك بعض الثغرات، إلا أنّ الدولة بدأت تُظهر جهداً أكبر في تنظيم هذه البرامج".
يشهد لبنان منذ سنوات أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، أطاحت معيشة اللبنانيين ودفعت شرائح واسعة منهم إلى ما دون خطّ الفقر. فبحسب تقرير للبنك الدولي صدر عام 2024 ارتفع معدل الفقر في لبنان أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي إلى 44% من مجموع السكان.
مع تفاقم الانهيار المالي وتراجع الخدمات العامة، أصبح الإنفاق الاجتماعي حاجة ملحّة وليس رفاهية. وفي محاولة لتخفيف الصدمة عن الفئات الأكثر تضرراً. برزت برامج مساعدات مالية عدة مموّلة من الجهات الدولية، أبرزها برنامج "أمان"، وهو برنامج وطني لدعم الأسر اللبنانية الأكثر فقراً، والمموَّل من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي. ويقدّم البرنامج مساعدات نقدية شهرية الى 167 ألف أسرة، أي ما يعادل 800 ألف شخص يتوزّعون على مختلف المناطق اللبنانية.
إلا أنّ هذا النمط من المساعدات يطرح اليوم ضرورة البحث عن مصادر تمويل لاستدامته وتوسيع نطاقه، وعدم الاكتفاء بانتظار التمويل الخارجي الذي قد يتأثر بعوامل سياسية من هنا وهناك وبالتالي يحرم آلاف العائلات مصدر دخلها الوحيد.

تفاوت في المساعدات
رغم توسّع برامج الحماية الاجتماعية في لبنان، لا يزال التفاوت واضحاً بين من تشملهم المساعدات ومن يُستثنون منها، حتى داخل البلدة الواحدة. ففي دير قانون النهر في قضاء صور جنوب لبنان، تتباين التجارب والآراء حيال هذه البرامج بين الرضا والاستياء.
ففي حين تقول (ل. دياب) ربة منزل وأم لأربعة أطفال، أنَّها بدأت تتلقى المساعدة الشهرية من برنامج "أمان" منذ مطلع هذا العام معتبرة أن هذا الدعم، وإن كان متواضعاً، ساعدها في تأمين الحاجات الأساسية لأسرتها وتسديد بعض المصاريف الضرورية ما جعلها تشعر ببعض الاطمئنان، يشرح محمد قشور، وهو أب لثلاثة أولاد أنّ منزله تضرّر بشكل كبير جرّاء القصف الأخير، ما اضطرّه إلى الانتقال مع عائلته إلى منزلٍ مستأجر في البلدة نفسها. ويقول: "قدّمت منذ أشهر طلباً للاستفادة من برنامج أمان، وأرفقت كل المستندات المطلوبة، لكن لم يصلني أي رد حتى اليوم. وضعي صعب جداً، بالكاد أستطيع تأمين إيجار البيت وثمن الدواء، وأي مساعدة مهما كانت بسيطة قد تُحدث فرقاً كبيراً بالنسبة إلينا".
تعكس هذه الآراء أنّ برامج الحماية الاجتماعية، رغم توسعها وتعددها، تواجه تحديات كبيرة في تحقيق العدالة والاستدامة. فالتفاوت في الوصول إلى المساعدات بين مختلف الفئات، وضعف قواعد البيانات، يحدّان من فعالية الدعم ويجعلان بعض المحتاجين خارج نطاق الاستفادة.
ومع ذلك، تشير التطورات الأخيرة إلى محاولات لتحسين تنظيم الإنفاق الاجتماعي وزيادة الشفافية في مختلف البرامج، سواء كانت نقدية، أو متعلقة بالتعليم، أو بالصحة، أو بالرعاية المباشرة للفئات المهمشة. لكن التحدي الأكبر يبقى في تأمين مصادر تمويل لهذه المساعدات، وإنشاء منظومة اجتماعية وطنية متكاملة لسد هذه الثغرات. فماذا تقول وزارة الشؤون المعني الأول بهذه الاستراتيجيات؟

دور وزارة الشؤون
في حديث خاص الى "النهار"، تقول وزيرة الشؤون الاجتماعية حنين السيد: "صحيح أن جزءاً كبيراً من التمويل الحالي يأتي من الشركاء الدوليين، إلّا أننا نعمل في الوزارة على خطة وطنية للتمويل المستدام تدمج بين الدعم الخارجي والموارد المحلية"، مشددةً على أن الهدف الأساسي هو أن يصبح الإنفاق الاجتماعي بنداً ثابتاً في الموازنة العامة، لا يتأثر بتغيّر الحكومات أو الظروف السياسية، لأنّ الحماية الاجتماعية حقّ وليست مبادرة ظرفية".
وتضيف: "نعمل على تعزيز الشراكات مع القطاع الخاص والبلديات والمغتربين اللبنانيين، لتأمين مساهمات مستدامة في برامج الإدماج الاقتصادي وتمكين الأسر من العمل والإنتاج، لأنّ التنمية الحقيقية لا تتحقّق بالمساعدات فحسب، بل بخلق الفرص وتعزيز الكرامة الإنسانية".
أدّت الحرب الإسرائيلية الأخيرة إلى زيادة الضغوط الاقتصادية على اللبنانيين، إذ ارتفعت الأسعار وتراجعت القدرة الشرائية، وتضرّرت القطاعات الإنتاجية والسياحية. كما ساهمت في تفاقم معدلات البطالة والفقر نتيجة حالة عدم الاستقرار العام.
في هذا الإطار، تشير السيد إلى أن من الطبيعي أن تترك الحرب الأخيرة أثرها على الأولويات، خصوصاً في المناطق الجنوبية التي تضرّرت مباشرة. فمنذ اليوم الأول، كانت الفرق الميدانية للوزارة حاضرة على الأرض لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي والمساعدات الطارئةالى العائلات النازحة والمتضرّرة. أما اليوم، فـ"نقوم بتوزيع مساعدات نقدية ضمن برنامج مساعدة النازحين اللبنانيين داخلياً المتضررين من الحرب، هذه المساعدات تصل إلى 260 ألف لبناني من الأسر التي تستحقّها فعلاً، وفق معايير شفافة وعادلة"، لافتةً إلى "التنسيق الدائم مع الوزارات المعنية والبلديات والمنظمات الدولية لضمان توازن التغطية وتوجيه الدعم نحو المناطق والفئات الأكثر حاجة، بعيداً من أي استنسابية أو تمييز".
لتكن البرامج الاجتماعية جزءاً من بنية الدولة
تُعدّ استمرارية برامج وزارة الشؤون الاجتماعية مسألة أساسية لضمان دعم الفئات اللبنانية الأكثر هشاشة، خصوصاً في ظل الأزمات المتلاحقة. فهذه البرامج تشكّل شبكة أمان حيوية تساهم في حماية المواطنين من تبعات الانهيار الاقتصادي والمعيشي.
هنا تقول السيد في حديثها: "أنا أؤمن باستمرارية الحكم، وهذا أحد أبرز أهدافنا في هذه المرحلة، فنحن نعمل على إرساء منظومة وطنية للحماية والتنمية الاجتماعية، بموجب استراتيجية طويلة الأمد تُوحّد جميع البرامج الاجتماعية ضمن إطار مؤسسي، يضمن الاستمرارية والحوكمة الرشيدة والشفافية، وهذه المنظومة تهدف إلى تحويل وزارة الشؤون الاجتماعية من وزارة خدمات ومساعدات إلى وزارة تنمية اجتماعية، تخطّط سياسات على المدى الطويل وتنسقها وتنفذها"، لافتةً إلى "أننا نريد أن تكون البرامج الاجتماعية جزءاً من بنية الدولة، وليست مبادرات موقتة تتبدّل مع تبدّل الأشخاص أو الظروف، لأنّ العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تُبنى على الاستثناء، بل على الاستدامة".

زيادة الإنفاق لا تعني تحقيق الأهداف!
أولت الدولة اللبنانية أخيراً اهتماماً خاصاً لتعزيز الحماية الاجتماعية ودعم المواطنين الأكثر حاجة، بحيث خصصت موازنة 2026 نسبة كبيرة من الإنفاق لهذه الغاية.
في هذا السياق، تقول سابين حاتم الخبيرة الاقتصادية الرئيسية ومديرة التعاون والشراكات في معهد باسل فليحان المالي والإقتصادي لـ"النهار"، إن "الدولة خصصت في عام 2025 نحو 26% من نفقاتها للحماية الاجتماعية، أي ما يزيد قليلاً عن 115 مليار ليرة، أمّا في مشروع موازنة عام 2026، فقد ارتفع هذا الرقم إلى نحو 172 مليار ليرة، وهو ما يشكّل قرابة 32% من إجمال الموازنة".
الأرقام تُظهر بوضوح أنّ الإنفاق على الحماية الاجتماعية في تزايد وليس في تراجع، كما قد يُعتقد أحياناً، إلا أنّ الأهم من حجم المبالغ المخصّصة هو النظر في كيفية استخدام هذه الأموال وتوزيعها بين البرامج المختلفة، فذلك ما يكشف فعلياً عن توجّه الدولة في سياساتها الاجتماعية.
هنا توضح حاتم أنّ الجزء الأكبر من الإنفاق على الحماية الاجتماعية يذهب إلى معاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة. فخلال السنوات الأخيرة، بات من النادر أن يسحب أحد العاملين تعويض نهاية الخدمة فعلياً. وتُشكل معاشات التقاعد وحدها قرابة ثلث الإنفاق المخصّص للحماية الاجتماعية في الموازنة، و"هو رقم كبير في ذاته".
التحوّل الأبرز خلال العامين الماضيين، وفق حاتم، والذي بدأ فعلياً عام 2024، يتمثل في التزام الدولة، وخصوصاً وزارة الشؤون الاجتماعية، تخصيص نفقات متزايدة لبرامج الحماية الاجتماعية، فقد ارتفعت المنحة المالية الموجّهة إلى ذوي الإعاقة من 150 مليار ليرة عام 2024 إلى 300 مليار ليرة عام 2025.
لكن على رغم أنّ الجزء الأكبر من الإنفاق العام ما زال يذهب إلى ما يُعرف بالتأمين الاجتماعي، وخصوصاً معاشات التقاعد التي تُشكّل بنداً مرتفعاً في الموازنة، إلّا أنّ قيمتها الفعلية اليوم لم تعد كافية لتأمين عيش كريم للمتقاعدين.

جذور المشكلة أعمق من الجهود الآنية
على رغم الجهود المخصصة للإنفاق الاجتماعي، غالباً ما تفشل البرامج في الوصول إلى الفئات الأكثر حاجة وتحقيق أثر ملموس. ويعود ذلك إلى مجموعة من العوامل البنيوية والتنفيذية التي تعوق فاعليتها.
هنا تشير الصحافية المتخصصة في الاقتصاد الاجتماعي والسياسات العامة صبحية نجّار لـ"النهار"، الى أن وزارة الشؤون الاجتماعية تبذل اليوم جهداً لافتاً في تنظيم الإنفاق الاجتماعي، لكن جذور المشكلة أعمق من الجهود الراهنة. "فلم تنجح برامج الشؤون عبر السنوات في تحقيق أهدافها، لا بسبب ضعف التمويل فحسب، بل نتيجة خلل بنيوي وغياب رؤية شاملة للسياسات الاجتماعية، فالنظام اللبناني ما زال يتعامل مع المواطن "تابعاً وليس صاحب حق"، ما يجعل الإنفاق الاجتماعي يُوزّع عبر شبكات سياسية وطائفية بدلاً من العدالة والشفافية"، مشيرةً إلى أن هذا الواقع بدأ يتبدّل مع التوجّه نحو إدارة أكثر مأسسة وعدلاً.
وفي الحلول، تعتبر نجّار أنَّ الإصلاح يبدأ بتحويل الإنفاق الاجتماعي من أداة سياسية إلى سياسة عامة عادلة وشفافة تحفظ كرامة الناس، كما من الضروري القيام بإصلاح جذري لمنظومة الحماية الاجتماعية لتصبح قائمة على الحقوق لا الولاءات، بعيداً من إطلاق برامج جديدة، لافتة إلى أن وزيرة الشؤون الاجتماعية حنين السيد بدأت بخطوات لتحويل المساعدات إلى نظام حماية مستدام وشفاف.
للإستفادة من تجارب الدول الأخرى
وعن تجارب الدول الأخرى في البرامج الاجتماعية، تلفت نجّار إلى أن الأردن أنشأ قاعدة بيانات وطنية باسم "تكافل" حسّنت عدالة توزيع الدعم، فيما اعتمدت تونس والمغرب نهجاً يدمج الدعم النقدي بالتدريب والعمل لتحويل المساعدة إلى فرصة. أما في البرازيل، فأثبت برنامج "بولسا فاميليا" أن الدعم النقدي يصبح أداة تنمية حقيقية عندما يُربط بالتعليم والصحة ويخضع للرقابة.
وتؤكد أن "لبنان لا يحتاج إلى نسخ هذه النماذج، بل إلى تبنّي مبادئها: الشفافية، البيانات الدقيقة، والتخطيط الطويل المدى". كما لا بد من تغيير الذهنية، ومعاملة الناس مواطنين أصحاب حقوق لا مستفيدين من مساعدات. وتوحيد قاعدة البيانات عبر السجل الاجتماعي الوطني، وربط المساعدات بالتضخم للحفاظ على قيمتها، ودمج الدعم ببرامج التمكين الاقتصادي وخلق فرص العمل، مع حوكمة واضحة وتنسيق بين الوزارات. كما يجب إنشاء آلية شفافة تُدار بالشراكة مع المجتمع المدني، ووضع العدالة الجندرية في صلب أي إصلاح، لأن النساء يتحمّلن العبء الأكبر من الأزمات".
يُنشر هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي حول "قضايا الشفافية والإصلاحات المالية والاقتصادية" تنظمه مؤسسة مهارات بالشراكة مع معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي وبدعم من الصندوق الكندي للمبادرات المحلية - CFLI.
نبض