كميل شمعون بين بيرك والفكر المحافظ
الخوري ريمون أبي تامر
في مرحلة دقيقة من تاريخ لبنان، حيث تداخلت المشاريع الإقليمية وتنازعت الهويات بين العروبة والغرب، برز كميل شمعون كواحد من القلائل الذين فهموا معنى الدولة اللبنانية وضرورة حمايتها في زمن العواصف. لم يكن شمعون مجرّد رئيس للجمهورية بين عامي 1952 و1958، بل كان مهندس مشروع سياسي وفكري متكامل يقوم على السيادة، الاستمرارية، والانفتاح المتوازن.
من هنا، يلتقي فكره وممارساته مع رؤية الفيلسوف البريطاني المحافظ إدموند بيرك، الذي رأى في السياسة فنّ الإصلاح التدريجي لا فنّ القطيعة، وفي التقاليد ضمانة لاستقرار الأمة لا عبئًا عليها.
كان بيرك يؤمن بأن المجتمع كائن حيّ يتطور عبر الزمن، وأن أي ثورة بلا جذور تتحول إلى فوضى. هذا ما طبّقه شمعون في مسيرته السياسية: إصلاح المؤسسات بدل هدمها، وتحديث الدولة من دون التنازل عن هويتها.
عام 1952، قاد تغييرًا هادئًا أخرج البلاد من الجمود، وبدأ بإصلاحات شاملة في البنية التحتية، التعليم، والإدارة، مؤمنًا بأن الدولة القوية تُبنى بالعمل لا بالشعارات.
لكن امتحانه الأصعب كان عام 1958، حين واجه تصاعد المدّ العربي بقيادة جمال عبد الناصر وضغوطًا هائلة لجرّ لبنان إلى محور الوحدة العربية. رفض شمعون الانصهار في المشروع الناصري، وتمسّك باستقلال لبنان وسيادته، مدافعًا عن فكرة الكيان اللبناني كهوية جامعة، لا كواجهة لمشروع خارجي. قال في أحد خطاباته:
"لبنان لا يمكن أن يكون تابعًا لأحد، لا للشرق ولا للغرب، بل وطنًا حرًا يلتقي فيه الجميع.”
بعد انتهاء ولايته، لم يغادر شمعون الحياة العامة، بل أسّس حزب الوطنيين الأحرار ليحوّل فكره السياسي إلى إطار حزبي واضح، يجمع التيار المحافظ الدستوري حول مبادئ الحرية الاقتصادية، السيادة الوطنية، والتعددية الثقافية.
وعندما اندلعت الحرب اللبنانية، كان من أبرز مؤسسي الجبهة اللبنانية، إلى جانب بشير الجميل وبيار الجميل وريمون إدّه، حيث لعب دورًا محوريًا في صياغة الخطاب السياسي للمقاومة المسيحية، دفاعًا عن الكيان والهوية اللبنانية في وجه محاولات الذوبان والاحتواء. لم يكن يرى في المقاومة مجرد ردّ عسكري، بل استمرارًا فلسفيًا لفكر بيرك: الدفاع عن المؤسسات والتاريخ والهوية في وجه الفوضى الثورية.
إن ما ميّز شمعون عن كثيرين من معاصريه هو أنه جمع بين الحنكة الدبلوماسية والرؤية الوطنية العميقة. كان “الثعلب” في السياسة، لكنه أيضًا المفكر العملي الذي أدرك أن الدولة لا تعيش من دون ذاكرة، وأن الحرية من دون مسؤولية تتحول إلى خطر على الوطن.
لقد فهم أن الزعيم الحقيقي لا يُقاس بصخَب الشعارات، بل بقدرته على حماية الكيان من التآكل. وكما قال بيرك، “الشعوب التي تنسى جذورها، تفقد وجهها.”
كميل شمعون لم ينسَ جذور لبنان، بل حرسها بفكرٍ محافظٍ حيٍّ وواقعي، يجمع بين الإرث والتجديد، بين الشجاعة والاتزان.
فمن يحرس الدولة، يحرس الإنسان — ومن يحرس الإنسان، يحفظ معنى الوطن.
نبض