السباق النووي المستعر: موسكو تستعرض وبكين تتقدم بصمت... وواشنطن تتفرج
يعود سباق التسلّح النووي إلى الواجهة من جديد، لكن بملامح مختلفة عن الماضي، في حين تجد الولايات المتحدة نفسها أمام منافسين نوويين اثنين متصاعدين في آن بدلاً من منافس واحد، على عكس ما كان عليه الحال خلال الحرب الباردة.
فالصين، التي كانت تمتلك لفترة طويلة قوة نووية محدودة، تلحق بالركب بسرعة، بينما تُطوّر روسيا مجموعة متنوعة من أنظمة الجيل الجديد المُوجهة للمدن الأميركية.
كان غزو روسيا الشامل لأوكرانيا في عام 2022 هو ما أعاد التهديد النووي إلى صميم السياسة العالمية. لقد استخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالفعل التهديد النووي لتقليص الدعم الأميركي لأوكرانيا. فقد نشر أسلحة نووية في بيلاروسيا. وفي الأسابيع الأخيرة، اختبر صاروخاً يعمل بالطاقة النووية وغواصة بدون طيار تعمل بالطاقة النووية، يدّعي أنها مُحصّنة ضد الدفاعات الأميركية.
وصحيح أن بوتين أمر هذا الشهر وزارة الدفاع بدراسة استئناف التجارب النووية، ولكن لم تصدر أي توجيهات عملية. ويرى مسؤولون غربيون أن موسكو تستخدم التلويح النووي كأداة ضغط استراتيجية. ورغم الضجة، يؤكد خبراء أن أنظمة "بوريفيستنيك" و"بوسيدون" الروسية لا تزال غير جاهزة عملياً، وتؤدي دوراً نفسياً أكثر منه عسكرياً.
لكن بينما يُعتبر بوتين محور القصة النووية الجديدة، وفي حين لا تزال روسيا والولايات المتحدة ملتزمتين ببعض قيود ضبط الأسلحة، مثل معاهدة "نيو ستارت" التي تنتهي في شباط، فإن الصين، غير المقيدة بأي التزامات، تتقدم بهدوء ولكن بسرعة وثبات إلى الأمام. ووفقاً للتقديرات الأميركية، ستصل بكين إلى مستوى التكافؤ تقريباً مع الولايات المتحدة في الرؤوس النووية المنشورة بحلول منتصف ثلاثينيات هذا القرن.
الصين تتقدم بهدوء
على عكس روسيا، التزمت بكين الصمت إلى حد كبير. ولكن تُظهر صور الأقمار الصناعية وتحليلات خبراء أن الصين تُوسّع بسرعة موقعاً تاريخياً للتجارب النووية في أقصى غرب شينجيانغ، حيث أجرت أول تجربة لقنبلة ذرية عام 1964. وقد حفر الجيش الصيني أنفاقاً جديدة بهدوء، وفكّك غرفاً متفجرة، وبنى مرافق دعم، يقول الباحثون إنها تُشير إلى استعدادات لإجراء تجارب نووية.
ومع ذلك، لا تزال ترسانة الصين النووية، التي تضم حالياً نحو 600 رأس حربي، ومن المتوقع أن تصل إلى قرابة 1000 رأس بحلول عام 2030، أقل بكثير من مخزون الولايات المتحدة (5117) وروسيا (5459).
رغم أن البرنامج النووي الصيني لا يزال متأخراً بسنوات عن برنامجي روسيا والولايات المتحدة، إلا أن محللين يقولون إن هذا التفاوت تحديداً هو ما قد يكون الدافع وراء التوسع الواضح لمرافق تجاربها.
ويُحاط البرنامج النووي الصيني بسرية بالغة، والمعلومات المتوافرة عن تطوره محدودة، حيث لا يزور منشآته النائية سوى عدد قليل من الخبراء الغربيين. لكن في لوب نور، الموقع العسكري الضخم في شينجيانغ، والذي قورن بموقع التجارب الأميركي في نيفادا، يقول المحللون الذين يتابعون التطورات بانتظام إن تغييرات هائلة جارية، ما يشير إلى أن الجيش الصيني يقيم بنية تحتية يمكنها دعم تجارب نووية أكبر أو أكثر تواتراً.
ولا تزال الرؤوس الحربية النووية لدى واشنطن وموسكو تعود إلى عقود مضت. وتعتمد الولايات المتحدة في تحديث هذه الرؤوس على اختبارات لا تُنتج أي عائد نووي، لكنها تتيح تحسين الأداء وضمان الجاهزية دون خرق القيود المفروضة على التجارب النووية الكاملة.
شكوك وعدم يقين
ولّد تزايد التقارب الروسي–الصيني مستوى غير مسبوق من الغموض الاستراتيجي أمام الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وآسيا، وزادته تعقيداً شكوك متنامية بشأن التزام ترامب بحماية الحلفاء ضمن ترتيبات الدفاع المشترك. وكانت لجنة برلمانية أميركية من الحزبين قد أوصت عام 2023 بدراسة توسيع الترسانة النووية للمرة الأولى منذ عقود، ردّاً على التقدّم الصيني المتسارع. ورغم تأكيد ترامب رغبته في الحد من الأسلحة النووية، فإنه يشدد على أن ذلك غير ممكن دون خطوات مماثلة من خصوم واشنطن، بل دعا مؤخراً إلى استئناف التجارب النووية.
وأشار فيبين نارانغ، مدير مركز سياسة الأمن النووي في MIT (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)، إلى أن واشنطن كانت بطيئة في التعامل مع التهديدات الجديدة، إذ بُنيت خطط التحديث النووي الأميركية على الاعتقاد بأن روسيا ستواصل خفض ترسانتها، وأن الصين وكوريا الشمالية لن تشكلا تحديات خطيرة. ويرى نارانغ أن أي صراع في أوروبا بالتزامن مع تحرك صيني ضد تايوان قد يرهق الولايات المتحدة بشدة، وهي سيناريوات لا تبدو البلاد مستعدة لها.
وتقدّر الاستخبارات الأميركية أن الرئيس الصيني شي جينبينغ أمر جيشه بالاستعداد لاحتمال السيطرة على تايوان بحلول 2027، بينما يحذر قادة أميركيون وأوروبيون من "مشكلة التزامن"، حيث قد ترافق تحركات الصين عمليات عسكرية روسية ضد دول في الناتو أو استفزازات كورية شمالية ضد الحلفاء في آسيا. وفي الوقت نفسه، ترفض بكين المشاركة في مفاوضات الحد من التسلح قبل تقليص واشنطن وموسكو ترسانتيهما.
قد تبدو التراكمات النووية اليوم أكثر خطورة من الحرب الباردة، لأن التهديد بالانتشار النووي يتصاعد إضافة إلى غموض مواقف إدارة ترامب تجاه الحلفاء، ما يدفع بعض الدول إلى التفكير في امتلاك أسلحة نووية خشية تراجع المظلة الأمنية الأميركية، وبسبب تزايد القلق بشأن هشاشة أنظمة القيادة والتحكم النووية مع تزايد احتمالات اختراقها أو تعطيلها عبر الهجمات الإلكترونية. ومع تفكك معاهدات الحد من الأسلحة النووية تباعاً، يرى أنصار "توازن الرعب" أن الردع المتبادل قد يجعل المرحلة الحالية أقل خطورة مما تبدو عليه. فالحرب الباردة لم تشتعل أصلاً بفضل الخوف من الدمار المتبادل، ما يثير تساؤلاً: هل يمكن أن يسهم الانتشار النووي في حفظ السلام؟
نبض