في ملف روسيا... ترامب ليس نيكسون
يقول قسم من المراقبين المناصرين لترامب إن سياسته تجاه روسيا وأوكرانيا تعتمد على محاولة استنساخ تجربة ريتشارد نيكسون في إبعاد الصينيين عن الاتحاد السوفياتي، لكن باتجاه معاكس هذه المرة. في بداية السبعينات، كانت بكين هي الطرف الأضعف في الشراكة مع موسكو، بينما انقلب الوضع اليوم. لهذا السبب، سيجذب ترامب موسكو بعيداً من بكين لمحاولة كسب الصراع الاستراتيجي الذي يطبع القرن الحادي والعشرين. هذا ما يفسر، بحسب أصحاب هذه النظرية، ضغط ترامب الكبير على أوكرانيا لمحاولة إنهاء الحرب مع روسيا، كما يفسر غياب مثل هذا الضغط عن موسكو. الضعف الأول في هذه النظرية هو أنها تنظر إلى الرئيس الأميركي باعتباره منظّراً استراتيجياً.
ينفي مستشار ترامب الأسبق لشؤون الأمن القومي جون بولتون هذه الصفة عن رئيسه. ليس المرء بحاجة إلى عناء كبير للتأكد من كلام المستشار الذي تحول إلى منتقد شرس لترامب. نادراً ما يذكر ترامب في خطاباته مواضيع تُعنى بالشؤون الاستراتيجية الدولية. صحيح أنه ليس الرئيس الوحيد الذي يحجم عن هكذا خطابات، بخاصة أنها لا تعني كثيراً الناخب الأميركي.
لكن بالحد الأدنى، يمكن القول إن النظريات الكبرى للعلاقات الدولية لا تحتل الأولوية المطلقة لدى الرئيس. لا يكفي أن يكون أي مسؤول أميركي ضد حربي العراق وأفغانستان، أو أن يكون حذراً من الصعود الصيني، لكي يكون بالإمكان استنتاج أنه مهتم بالاستراتيجيات الدولية. بينما كان نيكسون، على سبيل المثال، يفتخر بأنه ماهر في العلاقات الخارجية ويعتبر أن أي بيروقراطية قادرة على تولي الشؤون الداخلية.
المشهد الأوسع... وصولاً إلى الصدمة
في حالة "تفضيل" ترامب لروسيا على أوكرانيا، يمكن افتراض، بشيء من اليقين، حيوية "سياسة الصورة" لدى الرئيس. يرى ترامب في نظيره الروسي شخصاً مكافئاً له في الندية إلى حد كبير، بعكس الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. بالتالي، إن صورة ترامب وهو يصافح بوتين، على الرغم مما تحمله من جدل (وربما بسبب هذا الجدل أيضاً)، تمنح الرئيس الأميركي الأضواء التي يتوق إليها. مصافحة زيلينسكي؟ ليس إلى هذا الحد. قد يرى ترامب في نظيره الأوكراني "تابعاً"، أو أسوأ، "تابعاً جاحداً".
من ناحية ثانية، لا تزال روسيا تمثل بالنسبة إلى ترامب وقاعدته الشعبية "حليفاً محافظاً" في وجه "النخبة العالمية اليسارية". فكروا مثلاً بما قاله في شباط (فبراير) 2023 السيناتور الجمهوري تيد كروز عن أنه لطالما كان الجمهوريون متشددين تجاه روسيا، لكنهم عندما رأوا الليبراليين يرفعون أعلام أوكرانيا، بدأوا يعيدون التفكير بمواقفهم. بمعنى آخر، لم يعد تقييم القضايا العالمية لدى قسم من المحافظين مرتبطاً بالحجج الداعمة أو المناهضة لها، بل بموقف "اليسار" منها.
وثمة افتراضات قد تكون أبسط بعد، وربما أكثر إثارة للصدمة. كما كتبت تزفي غرينفيلد في صحيفة "هآرتس" سنة 2017، بما أن الغرب الروسي يضم السكان "الأشد بياضاً" على الأرض، حتى بالمقارنة مع الدول الاسكندينافية وألمانيا، يريد ترامب تقليد نموذج بوتين و"إعادة منح أميركا إلى البيض". (ورأت أن نتنياهو يحب بوتين بسبب القواعد غير المكتوبة في تحسين أوضاع الطبقات الدنيا والذي يديم سلطته).
ماذا لو كان استراتيجياً بالفعل؟
حتى مع منح ترامب "فائدة الشك" واعتبار أنه يريد أولاً فصل روسيا عن الصين، ثمة ما يجعل سلوك الرئيس الأميركي الحالي مختلفاً تماماً عن سلوك نيكسون. من جهة، لم يهدد الرئيس الأسبق حلفاءه وشركاءه أو يحط من شأنهم علناً في مواجهة موسكو أو بكين.
على العكس من ذلك، كان نيكسون يقول إن بريطانيا أقوى داخل المجتمع الأوروبي لا خارجه، كما أن زيارته الخارجية الأولى كرئيس للولايات المتحدة كانت لأوروبا الغربية. شعر نيكسون أن تلك الزيارة ستؤسس مبدأ أن واشنطن ستتشاور مع حلفائها قبل الانفتاح على الأعداء. لا يحتاج المراقب إلى سرد أمثلة كثيرة لتوضيح تناقض المشهد بين الرئيسين الأميركيين. والفرق الأهم بينهما قد يتجلى في التالي.
رسالة سرية... وسؤال
سنة 2023، تم الكشف عن رسالة سرية وجهها نيكسون في نيسان (أبريل) 1994 (قبل شهر من وفاته) إلى بيل كلينتون يحذّره فيها من إمكانية عودة القوميين إلى روسيا واحتمال "تفجر" العلاقة بين موسكو وكييف، ناصحاً إياه بتعزيز تمثيله الديبلوماسي هناك. كان نيكسون عائداً من زيارة حديثة إلى أوكرانيا وروسيا وشعر بأن بوريس يلتسين لم يعد قادراً على ضمان الالتزامات التي تعهد بها، أكان لأسباب شخصية أو سياسية، بالرغم من أن نيكسون كان أحد أوائل المعجبين بالرئيس الروسي الأسبق.
سنة 2013، قال كلينتون إنه بعد وفاة نيكسون، رغب لو أمكن أن يتصل به ليسأله عما يمكن فعله في القضايا التي تخص روسيا.
هل سيعرب أي رئيس أميركي لاحق، بعد عمر مديد، عن تمنٍ بإمكانية مهاتفة ترامب لاستشارته في قضايا كهذه؟
من المفيد الانتظار إلى ما بعد انتهاء ولايته، لتأكيد أو نفي أي انطباع أولي في هذا الشأن.
نبض