تركيا تعيد توزيع النفوذ بين المال والسياسة والإعلام

تركيا 23-10-2025 | 06:07

تركيا تعيد توزيع النفوذ بين المال والسياسة والإعلام

بدأت القصة ظاهرياً بتحقيقات في ملف مجموعة "جان" القابضة (Can Holding)، التي توسّعت بشكل لافت في السنوات الأخيرة، وقامت بشراء مؤسسات تعليمية كبرى مثل "جامعة بيلغي" و"مدارس دوغا".
تركيا تعيد توزيع النفوذ بين المال والسياسة والإعلام
مجموعة "جان" القابضة. (وكالات)
Smaller Bigger

تشهد تركيا منذ أسابيع موجةً مستمرة من التحقيقات والاعتقالات التي طالت رجال أعمال بارزين، ومديري مؤسسات مالية وإعلامية، وأسماء كانت حتى الأمس القريب جزءاً من الدائرة الاقتصادية والسياسية المقرّبة من الرئيس رجب طيب أردوغان.
وتتّسع قائمة الأسماء يومياً لتشمل كيانات مالية ضخمة، وشخصيات سياسية وحقوقية وإعلامية، وأسماء نافذة في عالم الأمن والاقتصاد، فيما يتزايد الانطباع لدى الخبراء الأتراك بأنّ ما يجري لم يعد مجرد سلسلة من القضايا الجنائية المعزولة، بل عملية إعادة هيكلة داخلية لموازين القوة والنفوذ في تركيا عشية مرحلة سياسية جديدة تلوح في الأفق.

 

المال في خدمة السياسة
بدأت القصة ظاهرياً بتحقيقات في ملف مجموعة "جان" القابضة (Can Holding)، التي توسّعت بشكل لافت في السنوات الأخيرة، وقامت بشراء مؤسسات تعليمية كبرى مثل "جامعة بيلغي" و"مدارس دوغا"، قبل أن تنتقل إلى قطاع الإعلام عبر صفقة الاستحواذ على جزء من "مجموعة جينر" المالكة لقناتي "هابرتورك" و"بلومبيرغ تورك".
لكن المفاجأة جاءت من شهادة مالك المجموعة كمال جان، الذي صرّح أمام المحكمة بأنّ عملية شراء المجموعة الإعلامية "تمّت بناءً على توجيه من شخصيات رفيعة في الدولة"، وهو تعبير تركي معروف الدلالة في قاموس العلاقات بين رجال الأعمال والسلطة.
هذا الاعتراف نقل القضية في الرأي العام من مجرد فتح ملف للشبهات المالية، إلى تسليط الضوء على الدور الخفي الذي تلعبه الدولة في هندسة ملكية وسائل الإعلام، حيث تُستخدم الشركات كواجهات مالية لتمرير صفقات سياسية الطابع، وهو اتّهام دأبت المعارضة على تكراره بالقول إنّ الإعلام في البلاد لم يعد وسيلة لنقل المعلومة، بل أداة لضبط السردية الرسمية وتثبيت ميزان الولاءات داخل النخبة الاقتصادية والسياسية.
يُجمع الخبراء الأتراك على أنّ "خيط المال" هو الرابط المشترك بين جميع قضايا التحقيقات. فملفات غسل الأموال، والتمويل غير المشروع، والاستثمار في الإعلام تتقاطع جميعها عند فكرة استخدام المال الأسود لتلميع الصورة البيضاء.
ويرى محللون أن ما يجري اليوم ليس حملة ضد الفساد بقدر ما هو إعادة رسم لخريطة الملكية الإعلامية، بحيث تُنقل السيطرة على المنابر الكبرى من أيدي رجال أعمال "أصبحوا عبئاً" إلى أيدي آخرين أكثر طواعية للنظام، ما يعني استغلال عنوان مكافحة الفساد كأداة لإعادة توزيع النفوذ في البلاد.
ويعزز هذا الاستنتاج تزامن التحقيقات الحالية مع ملفات سابقة لم تُغلق بالكامل، أبرزها قضية رجل الأعمال سيزغين باران كوركماز (SBK)، المتهم في الولايات المتحدة بعمليات غسل أموال واسعة.
كوركماز، الذي كان على صلة بشخصيات نافذة داخل البلاد، ألمح مؤخراً عبر منشوراته على "إكس" إلى أنّ هناك "عملية داخل عملية" تجري في البلاد، وأنّ "الآثار اختلطت بالدلائل"، في إشارة مبطنة إلى صراع بين أجنحة داخل الدولة، خصوصاً بين شبكات الأمن والمال والإعلام.

 

أسماء تشير إلى عمق الأزمة
مع اتّساع التحقيقات، تسربت معلومات تفيد بأنّ رجل الأعمال جنيت زابسو، وهو من أوائل مؤسّسي "حزب العدالة والتنمية" والمقرّب تاريخياً من الرئيس رجب طيب أردوغان، قد أُدرج اسمه على قائمة المطلوبين للاستجواب، قبل أن يتم التراجع عن القرار بعد سلسلة من الاتصالات التي أجراها زابسو، الموجود خارج البلاد في رحلة قصيرة، بدعوى أنّه "شاهد وليس متهماً".
مجرد ورود اسم زابسو، المعروف بدوره كقناة تواصل بين أردوغان وواشنطن في بداية وصول "العدالة والتنمية" إلى السلطة، وبين الحكومة التركية ورؤوس الأموال الغربية لاحقاً، أعطى مؤشرات قوية إلى أنّ التحقيقات تلامس مستويات حساسة داخل بنية السلطة نفسها.
زابسو كان طوال العقدين الماضيين أحد مهندسي العلاقات بين "حزب العدالة والتنمية" ورجال الأعمال من الطبقة الصاعدة، كما لعب دوراً محورياً في توجيه الاستثمارات الإعلامية والمالية، ما يعني أنّ ذكر اسمه في هذا التوقيت يعكس اهتزازاً في توازن المصالح داخل الدائرة المحيطة بالرئيس، وربما بداية لتصفيات داخلية تمهيداً لمرحلة ما بعد أردوغان.

معركة المال والإعلام على أبواب ما بعد أردوغان
وفي الوقت الذي خضع فيه "هابرتورك" لتغييرات إدارية مفاجئة عقب التحقيقات، أُوقفت برامج في قنوات أخرى مثل "فلش تي في"، وتعرّض مالكوها لاستجوابات مطوّلة.
يتحدث الصحافيون في أنقرة عن مرحلة "إعادة اصطفاف" إعلامي، إذ تُضبط الرسائل بما يتناسب مع سياسة الدولة الحالية القائمة على "ضبط الإيقاع" بدل المواجهة المفتوحة.
ومن اللافت أنّ هذه العمليات جاءت بالتزامن مع استعداد تركيا لدخول مرحلة سياسية جديدة داخل الحزب الحاكم نفسه، إذ تتزايد التكهنات حيال مستقبل القيادة بعد أردوغان، ما يجعل السيطرة على الإعلام أولوية مطلقة لضمان انتقال آمن للسلطة.


العلم التركي (مواقع)
العلم التركي (مواقع)

 

رسمياً، تصف السلطات التركية هذه الإجراءات بأنها "عمليات تطهير ضرورية لمواجهة الجريمة المنظمة وغسل الأموال"، لكن غياب الشفافية وتباين المعايير في توقيت تنفيذ المذكرات وتفسير الأدلة يثيران شكوكاً واسعة في الأوساط الحقوقية والإعلامية.
ويرى المتابعون أنّ الأمر يشبه إلى حدّ كبير ما جرى في فترات سابقة من تاريخ الجمهورية التركية، حين استخدمت الحكومات المتعاقبة شعار مكافحة الفساد لتصفية خصومها الاقتصاديين والسياسيين، مع اختلاف واضح هذه المرة في حجم المال المتداول وتشابك المصالح العابرة للحدود.
في الجوهر، يمكن قراءة هذه الموجة من العمليات بوصفها جزءاً من تحضير النظام التركي لمرحلة ما بعد أردوغان.
فالقوى السياسية والاقتصادية التي استفادت من النظام خلال العقدين الماضيين تسعى الآن إلى تأمين مواقعها في النظام الآتي، سواء كان استمراراً لحكم "العدالة والتنمية" أو صيغة هجينة تجمع بين الإسلام السياسي والبراغماتية الاقتصادية.
وبينما تتحدث بعض الأوساط عن "تنظيف الطاولة" تمهيداً لترتيب البيت الداخلي، يرى آخرون أنّ ما يجري هو صراع داخل الحاشية أكثر منه حملة وطنية ضد الفساد، لإقرار من يحق له إدارة المال والكلمة في الدولة التركية الجديدة.


العلامات الدالة

الأكثر قراءة

اقتصاد وأعمال 10/28/2025 5:28:00 AM
تتحمل المصارف  مسؤولية استثمار جزء أساسي من أموال المودعين في مصرف لبنان، رغم علمها بعجز المالية العامة، فيما يتحمل "المركزي" مسؤولية تمويل الدولة خارج الأطر القانونية
اقتصاد وأعمال 10/28/2025 10:49:00 AM
يعطي المدعي العام المالي القاضي ماهر شعيتو عناية خاصة لملف المبالغ المستعادة ومتابعة كل تفاصيله.
صحة وعلوم 10/29/2025 2:06:00 PM
أنقذ الطبيب اللبناني الدكتور محمد بيضون طفلاً من الموت بجراحة غير مسبوقة أعاد فيها وصل رأسه بجسمه، بعدما كان الأمل مفقوداً في نجاته.
أوروبا 10/29/2025 1:12:00 AM
ابنة بريجيت ماكرون في شهادة أمام القضاء: "إنهم يسخرون من أولادي ويقولون أن جدتهم متحولة".