تصريحات فيدان تشعل أزمة داخل العدالة والتنمية: صراع النفوذ ما بعد أردوغان

أشعلت تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، بعد يومين فقط من لقاء الرئيس رجب طيب أردوغان مع نظيره الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض، جدلاً سياسياً بدأ حيال مستقبل المقاتلة "كآن" (KAAN) المحلية الصنع، لكنه فُسّر كانعكاس "لصراع السلطة" من قبل أوساط واسعة من الصحافيين والسياسيين الأتراك.
وقال فيدان، المعروف بصمته خلال 13 عاماً على رأس جهاز الاستخبارات التركية، إن الإنتاج المتسلسل للمقاتلة يواجه أزمة بسبب المحركات الأميركية، مشيراً إلى أن العقوبات الأميركية (كاتسا) بعد 2019 وضعت أنقرة في مأزق، ومهدّداً بالبحث عن "خيارات بديلة" إذا استمر الكونغرس في تعطيل تراخيص التصدير.
من إف-35 إلى كآن: التحوّلات القسرية في السياسة الدفاعية
يهدف برنامج المقاتلة المحلية "كآن" إلى استبدال طائرات إف-16 وإف-35 الأميركية الصنع بأخرى تركية، ضمن خطة الاستقلالية الاستراتيجية التي تبنّاها الرئيس التركي وحليفه في السلطة دولت بخجلي، كرد فعل على الإملاءات الأميركية منذ عهد ترامب الرئاسي الأول.
واستخدمت الصناعات العسكرية، وخصوصاً المسيّرات وحاملات الطائرات، كورقة قوية في السياسة الداخلية ضمن الدعاية الانتخابية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2023، فيما حصدت "كآن" الحصة الأكبر ضمن هذه الحملة، حين تعمّد المسؤولون الحكوميون تحديد موعد تحليقها التجريبي قبل الانتخابات بأيام.
وكان من المخطط أن تدخل أول 20 مقاتلة الخدمة في عام 2028، على أن تُزوَّد بمحركات أميركية من نوع إف-110 موقتاً، ريثما يكتمل تطوير المحرك المحلي عام 2032. وقد استخدم النموذج الأولي المحرّك الأميركي في تحليقه التجريبي.
محرّكات إف-110، التي تنتجها شركة جنرال إلكتريك (GE) Aerospace الأميركية، تُستخدم أيضاً في مقاتلات إف-16 وإف-15 أي إكس إيغل 2، وتستخدم 17 دولة حول العالم هذه المحركات في تصنيع طائراتها القتالية، فيما تصنّع بعض أجزائها في تركيا شركة "توساش".
تصريحات فيدان أعادت إلى الواجهة صفقة تركيا مع إندونيسيا لبيع 48 مقاتلة "كآن"، الموقعة في تموز/يوليو الماضي خلال معرض الصناعات الدفاعية في إسطنبول، وستُسلّم المقاتلات عام 2032 بمحركات محلية الصنع.
ويحذّر خبراء عسكريون أتراك من أن استمرار العقوبات الأميركية قد يؤدّي إلى تعثّر برنامج إنتاج وتطوير المقاتلة المحلية، الذي كلّف ملايين الدولارات، وإساءة صورة تركيا في أسواق السلاح العالمية.
ويمنع قانون "كاتسا" الشركات الأميركية والمتعاونة معها بيع السلاح والتكنولوجيات العسكرية لأنقرة، وقد فرضته واشنطن على خلفية اقتناء تركيا لمنظومات الدفاع الجوي إس-400 الروسية، خلال ولاية ترامب الرئاسية الأولى.
وكانت النتيجة احتجاز المقاتلات الأميركية الأكثر تطوراً من نوع إف-35 التي اشترتها تركيا، واستبعاد الأخيرة من برنامج تصنيع قطع هذه المقاتلة الأكثر تطوّراً في العالم.
تصريح فيدان يثير الجدل الداخلي
حاولت الحكومة التركية تلافي الحرج الذي تسبّبت به تصريحات فيدان، فأصدرت رئاسة الصناعات الدفاعية بياناً طويلاً شددت فيه على أن الإنتاج المتسلسل "مخطط له على أساس المحركات المحلية"، وأن تطوير المحركات المحلية TF35000 وAPU60 يسير وفق البرنامج.
وشرحت الرئاسة أن البرنامج يتضمّن "العمل بمحركات جاهزة أولاً، ثم دمج المحرك المحلي تدريجاً"، مؤكدة أنه "لن يكون هناك أيّ تأخير في التسليم".
في المقابل، انتقد القيادي في حزب الشعب الجمهوري، نامق تان، المسؤول عن السياسات الخارجية للحزب، تصريحات فيدان قائلاً إنّه "اتضح أن كآن لا يمكن أن تحلّ مكان إف-35 بين ليلة وضحاها. يجب أن تدخل الطائرات الست من طراز إف-35 المحتجزة في الولايات المتحدة إلى صفوف قواتنا الجوية فوراً".
وأضاف تان: "منذ نحو 15 عاماً لم نضمّ أي طائرة جديدة إلى قواتنا الجوية، بينما تمتلك إسرائيل 278 طائرة بينها 38 من طراز إف-35، والحديث عن صفقة يوروفايتر لا قيمة له". وانتقد سياسات أردوغان بالقول: "لم يكن علينا شراء إس-400 من روسيا. والآن يتحدّث فيدان عن الاستقلالية الاستراتيجية بجدية، في مشهد يثير الحيرة: هل نضحك أم نبكي؟".
جناح العائلة مقابل البيروقراطيين
واعتبر الصحافي باريش تيرك أوغلو أن "ردود الفعل القاسية" داخل حزب العدالة والتنمية ضد فيدان مرتبطة بالصراع على موازين القوى داخل صفوف الحزب، قائلاً إن "تصريحات فيدان أشعلت أزمة عميقة داخل الحزب، حتى بين المقربين منه الذين وصفوا ما صدر عنه بأنه زلة لسان أو هفوة".
وأوضح تيرك أوغلو أن "جوهر الخلاف الذي بدأ بملف كآن يرتبط بالسؤال الكبير: من سيكون الأقوى بعد أردوغان داخل حزب العدالة والتنمية؟".
ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها الإعلام التركي عن تعمّق الصراع داخل جناحين رئيسيين في السلطة: أولاً، الجناح العائلي المكوّن من نجل الرئيس أردوغان وصهريه، وثانياً البيروقراطيين المقرّبين منه. وقد فسّرت الحملات الأمنية والتوقيفات القضائية التي شهدتها جهات وشركات تركية ضمن هذا الإطار.
الشهر الماضي شهدت تركيا واحدة من أخطر قضايا التجسس في تاريخ صناعاتها الدفاعية، بعد اعتقال كل من مالك المجموعة ومديرها العام، بتهم تتعلق بالتجسس العسكري وتسريب خطط مشتريات الجيش التركي للفترة 2025-2027، إضافة إلى شبهات ارتباط بحركة فتح الله غولن المحظورة.
وتعرف الشركة بقربها من فيدان، الذي أصرّ على التقاط الصور مع مالكها ومديرها في معرض الصناعات العسكرية الأخير ونشرها عبر وسائل الإعلام التركية.
القضية فجّرت جدلاً سياسياً واسعاً، وفيما طالبت المعارضة بتحقيق برلماني حول "اختراقات أمنية مزمنة"، دعا زعيم حزب الحركة القومية دولت بخجلي إلى "تطهير شامل للقطاع من بقايا غولن".
وقبل أيام، استفاق الأتراك على "فضيحة مجموعة جينر" التي تُعرف أيضاً بقربها من فيدان، على خلفية اتهامها بغسل أموال بقيمة 350 مليون دولار، واعتقلت السلطات التركية 12 مديراً من المجموعة وعيّنت أوصياء حكوميين على 23 شركة بينها وسائل إعلام كبرى، إلى جانب إصدار مذكرات توقيف دولية بحق رجل الأعمال الهارب تورغاي جينر.
تشير هذه التطوّرات، من أزمة تصريحات فيدان وصولاً إلى فضائح شركات كبرى، إلى عمق الصراع داخل مراكز القوى في تركيا، حيث تتداخل الحسابات السياسية مع ملفات الأمن والاقتصاد والإعلام، ومع اقتراب مرحلة ما بعد أردوغان، يبدو أن معركة النفوذ داخل حزب العدالة والتنمية لن تقتصر على الأجنحة السياسية فحسب، بل ستطال البنية الاقتصادية والمالية والأمنية للدولة، ما يجعل مستقبل الاستقرار الداخلي أكثر غموضاً.