
عزز هروب بشار الأسد وإطاحة نظامه في سوريا من قوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الخارجية والداخلية إلى حدّ كبير، بخاصة بعد رفض الأسد فتح صفحة جديدة معه، وهو ما كان يشير إليه أردوغان باستمرار.
أثّرت القضية السورية تأثيراً كبيراً على اختيارات الناخبين الأتراك خلال السنوات الماضية، وباتت جزءاً من الحملة الانتخابية وتفضيلات الجمهور نتيجة تأثيراتها الاقتصادية، وقضية اللاجئين، بالإضافة إلى مكانة أردوغان وحكومته إقليمياً ودولياً.
ويتّفق معظم المحللين الأتراك على أن التطورات الأخيرة في سوريا عززت موقف أردوغان الخارجي والداخلي، مع تزايد الحديث عن انعكاساتها الإيجابية لمصلحة الرئيس التركي وحزبه في أي استحقاق انتخابي دستوري آت.
وأظهر استبيان الرأي العام لشهر تشرين الثاني (نوفمبر) لمركز "بانوراما تي آر" نوعاً من تراجع شعبية السلطة بسبب المبادرة التي قدمها زعيم حزب "الحركة القومية" اليميني المتطرف دولت باخجلي، للمصالحة مع عبد الله أوجلان وحل القضية الكردية في البلاد.
ومنذ الانتخابات البلدية الأخيرة في 31 آذار (مارس) الماضي، يتناوب كل من "حزب الشعب الجمهوري" الذي تصدّر نتائج هذه الانتخابات، وحزب "العدالة والتنمية" الحاكم على صدارة المشهد السياسي في استطلاعات الرأي، وبفارق بسيط.
ولم تعد هناك سيطرة واضحة وبفارق كبير لأي حزب. وبينما تصدّر حزب "الشعب الجمهوري" في معظم استطلاعات رأي شهر أيلول (سبتمبر)، استعاد حزب "العدالة والتنمية" الصدارة في تشرين الأول (أكتوبر)، ثم عاد معارضوه إلى الصدارة في تشرين الثاني، بحسب تقارير مركزي "بانوراما تي آر" و"ميتروبول" وغيرهما.
ويعاني حزب "الشعب الجمهوري" تقلبات بسبب مشكلاته الداخلية، مثل الدعوات إلى المؤتمر العام والنقد الموجه إلى أداء رئيسه أوزغور أوزال، وغيرها من الأمور التي تُضعف موقف الحزب، مقابل حفاظ حزب "العدالة والتنمية" على تماسكه، ما يفسّر قدرته على الصمود في وجه المتغيرات.
في الوقت ذاته لا يزال الناخبون المترددون أو غير الحاسمين لخياراتهم يشكّلون "الحزب الأول" من حيث النسبة، في إشارة واضحة إلى تراجع اهتمام الأتراك بالأحزاب السياسية بسبب افتقادها أجندة واضحة وواقعية. فهي فشلت حتى الآن في تقديم رؤية أو برامج جديدة بعد الانتخابات الأخيرة، ولم تحدث التغييرات في قيادات حزبي "الشعب الجمهوري" و"الجيد" فرقاً كبيراً في جذب اهتمام الناخبين، كما أن اعتماد النظام الرئاسي، حوّل الاهتمام من الأحزاب والبرامج الحزبية إلى شخصية المرشّحين للرئاسة.
الانتصار التركي الأخير في سوريا سيلهم مشاعر فئات واسعة من الأتراك "المترددين"، وسط غلبة الأفكار والتطلّعات الدينية والقومية على المشكلات اليومية، من الاقتصاد المتردّي وتراجع مستوى الحريات والحقوق الفردية في البلاد في السنوات الأخيرة خاصة.
قد يدفع الفوز الشعبي الرئيس التركي إلى اتّخاذ خطوة أكثر جدّية في السياسة الداخلية، مستغلاً المناخ الإيجابي الذي خلّفه نجاح سياساته في سوريا، ليمضي قدماً نحو استحقاقات دستورية لطالما كانت موضع شكّ وتردد في السابق، كالذهاب إلى انتخابات مبكّرة أو تعديل الدستور وغيرها من الإجراءات التي تضمن له ولاية رئاسية رابعة.
تبدّلات مرتقبة في السياسة الداخلية التركية
وبرغم معارضة جزء كبير من المجتمع التركي وجود اللاجئين، لم يتحول ذلك إلى عامل أساسي يدفعهم لتغيير خياراتهم الانتخابية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية العام الماضي. ومع ذلك، تبقى قضية اللاجئين والضغط الاقتصادي المرتبط بها امتحاناً جدّياً أمام الرئيس التركي.
ويأمل أردوغان أن يؤدي استقرار الوضع في سوريا إلى فتح مسارات لعودة اللاجئين، إذ يعتقد العديد من المحللين الأتراك أن ما بين 15و20% من اللاجئين سيختارون العودة خلال عام، مع ارتفاع هذه النسبة لتتجاوز نصف العدد الموجود في تركيا مع نهاية العام الثاني.
وسيكون لهذه العودة المرتقبة تأثير إيجابي على صورة الرئيس أردوغان، كما أن الدور التركي الحاسم في عملية إعادة إعمار سوريا من خلال شركات التطوير العقاري المرتبطة به، وفوائد ذلك على الاقتصاد التركي، سيرجّح كفّة السلطة الحاكمة لسنوات مقبلة، فيما يبقى مصير القضية الكردية وملف شمال شرقي سوريا أحد أكبر التحدّيات التي قد تجبر أردوغان على السعي للتوصل إلى حلول ديبلوماسية كفيلة بتغيير المناخ الداخلي وعلاقات بلاده الخارجية.
ورغم إعلان باهجلي ضرورة حل المشكلة الكردية، إلا أن موقف أردوغان، باعتباره قائد الحكومة ورئيس الدولة، واللاعب الوحيد القادر على تحريك البيروقراطية وتفعيل الآليات المؤسساتية، هو الحاسم في هذه القضية.
ولم يحدث إصرار باهجلي على الحل خلال الشهرين الماضيين تغييرات كبيرة على مستوى الرأي العام التركي أو العملية السياسية، ما يشير إلى محدودية قدرته على التأثير في الجمهور الواسع مقارنة بتأثيره الواضح في النخب السياسية وعالم المافيا والبيروقراطيين الأمنيين.
لذا، فإن موقف المجتمع التركي ورأيه النهائي يبقى معلّقاً بما سيقوله أردوغان الذي لا يزال غير مقتنع تماماً بخطة العمل التي قدمها شريكه في "تحالف الشعب"، لا من حيث الضرورة ولا من حيث التوقيت.
وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن أكثر من نصف الأتراك يرفضون وجود "مشكلة كردية" في البلاد، إلا أن الأغلبية تعتقد أن المشكلة لا يمكن حلها فقط من خلال القضاء على "حزب العمال الكردستاني"، وأن الحل يحتاج إلى معالجة سياسية واجتماعية أوسع.
خارجياً، يرى أردوغان في سقوط نظام الأسد انتصاراً رغم أنه لا يخلو من الأخطار، خصوصاً أن تفاعلات الديناميكيات الإقليمية، وصعود الجماعات المتطرفة، وتعقيدات السياسة الكردية، ستؤثر مباشرةً في مستقبل تركيا، كما أن رؤيته لتجديد النفوذ التركي في المنطقة قد تصطدم بتحديات الواقع على الأرض، ومخاوف القوى الإقليمية وحتى العالمية ومعارضاتها.
لكن، لا شكّ في أن مكاسب هروب الأسد وإطاحة نظامه في الداخل التركي ستكون كبيرة جداً لمصلحة أردوغان وحزبه، وهو ما ينذر بتبدّلات سياسية سريعة في الداخل استثماراً للمناخ الإيجابي السائد لمصلحته.