قبرص التركية تُفاجئ أردوغان: الشباب يختار الفيدرالية على وصاية أنقرة
شكّلت نتائج الانتخابات الرئاسية في "جمهورية شمال قبرص التركية" مفاجأة في المشهد السياسي القبرصي والإقليمي، بفوز زعيم الحزب الجمهوري التركي السياسي اليساري توفان أرهورمان، ببرنامجه الداعي إلى الفيدرالية، بنسبة تقارب 60% من الأصوات، متقدّماً بفارق واسع على الرئيس المنتهية ولايته أرسين تتار، المدعوم من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وصاحب لواء انفصال الجزيرة عن قبرص اليونانية، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي.
جاءت نتيجة الانتخابات في الجمهورية المعترف باستقلالها من قبل أنقرة فقط تعبيراً عن أزمة ثقة داخل المجتمع القبرصي التركي، ورفضاً لسياسات التبعية الاقتصادية والسياسية لأنقرة، وللخطاب القومي الذي طغى على المرحلة السابقة.
خسارة المرشّح المدعوم من قبل الحكومة التركية أتت في توقيت حسّاس، إذ تتقاطع الملفات القبرصية مع التحوّلات العميقة في شرق المتوسط: من ترسيم الحدود البحرية والطاقة إلى العلاقات التركية الأوروبية، وصولاً إلى مستقبل الوجود العسكري التركي في الجزيرة.
شمال قبرص بين أنقرة وبروكسل
لم يكن فوز أرهورمان انتصاراً لمشروع "الفيدرالية" الذي يدعو إلى إعادة توحيد الجزيرة على أسس دستورية جديدة فحسب، بل كان تصويتاً عقابياً ضدّ السلطة القائمة التي فشلت في إدارة أبسط الملفّات المعيشية.
وشهدت المناطق الشمالية من الجزيرة خلال العام الماضي انقطاعات مزمنة في الكهرباء والمياه، وتدهوراً في الخدمات الصحّية والتعليمية، وتفشّياً لظواهر الجريمة والفساد وتهريب الأموال، ما جعل كثيرين يصفون الكيان القبرصي التركي بـ"الدولة الفاشلة".
هذه الأوضاع المعيشية انعكست في وعي الناخب، فبات يرى أن مشكلاته لم تعد تُحلّ بالشعارات القومية أو بخطاب "التهديد القادم من الجنوب"، بل بتأسيس مؤسسات حقيقية وإصلاح الإدارة العامة والحدّ من هيمنة أنقرة على قرارات الداخل. فالجيل الجديد من القبارصة الأتراك، الذي نشأ بعد خطة عنان عام 2004، لا يحمل ذاكرة الحرب، بل يحمل جواز السفر الأوروبي ورغبة العيش في فضاء أكثر حرّية وكرامة. بالنسبة إلى هؤلاء الشباب، أوروبا تمثّل الأمل في التعليم والسفر وفرص العمل، بينما تبدو العلاقة مع تركيا مصدراً للتوتر الدائم.
استثمر أرهورمان هذه النزعة بذكاء، حين ركّز خطابه الانتخابي على "الهويّة القبرصية المستقلة"، وضرورة استعادة القرار المحلي دون صدام مع أنقرة، بل من خلال "علاقة احترام متبادل". هذا الخطاب المعتدل جذب القاعدة الوسطية، بما فيها شرائح محافظة ضاقت ذرعاً بفساد النخب الموالية للحكومة السابقة.
لم يكن خافياً أن أنقرة دعمت مباشرةً حملة أرسين تتار، سواء عبر الدعم الإعلامي والسياسي أو من خلال رمزية زيارات المسؤولين الأتراك أثناء الحملة. غير أنّ هذه "المساندة المفرطة" انقلبت إلى عبء سياسي على المرشح، إذ فُسّرت كنوع من الوصاية على إرادة الناخبين. ورأى كثير من المحللين أنّ نتائج الاقتراع تعبّر عن "أزمة ثقة بين الشارع القبرصي التركي وأنقرة"، أكثر منها عن تحوّل أيديولوجي نحو اليسار.

هزيمة قد تتحوّل إلى فرصة لأردوغان
منذ تولّي أرسين تتار الحكم عام 2020، تبنّت أنقرة سياسة "حلّ الدولتين"، في مواجهة مشروع الفيدرالية المدعوم من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومع فوز أرهورمان، الذي أعاد طرح الفيدرالية كخيار وحيد للحل، تجد تركيا نفسها أمام إعادة تموضع في سياستها القبرصية.
ففي الوقت الذي تعمل فيه أنقرة على ترميم علاقاتها مع الإقليم والاتحاد الأوروبي، يفرض الملف القبرصي تحدياً خاصاً: هل تستمر تركيا في دعم سياسة الانفصال، أم تتجه إلى مرونة تكتيكية تتيح استئناف المفاوضات الأممية؟
يرى بعض المحللين الأتراك أن فوز أرهورمان لن يكون مزعجاً جداً لأردوغان، رغم الإضرار بصورته كزعيم تاريخي ذي ثقل رفض القبارصة الأتراك خياره، بل سيشكّل فرصة لأنقرة لإعادة قراءة الواقع، خصوصاً أن الإصرار على حلّ الدولتين لم يلق دعماً دولياً، بينما الانفتاح على المفاوضات قد يفتح الباب أمام تخفيف الضغوط الأوروبية واستئناف مشاريع الطاقة المشتركة شرق المتوسط.
في بروكسل، استُقبلت نتائج الانتخابات بارتياح واضح، فالاتحاد الأوروبي يرى في أرهورمان شريكاً مؤمناً بالحلّ السياسي وملتزماً بالمبادئ الأوروبية.
ومن المتوقّع أن تُعاد مناقشة ملف رفع القيود التجارية عن الشمال وفتح خطوط بحرية وجوية مباشرة، إذا ما أبدت الحكومة الجديدة جدّية في الإصلاح السياسي والشفافية المالية. هذه الخطوات قد تُسهم في تخفيف الاعتماد على تركيا وتعزيز موقع المجتمع القبرصي التركي داخل المنظومة الأوروبية.
في السنوات الأخيرة، تحوّل شرق المتوسط إلى ساحة تنافس محموم على الغاز والممرات البحرية. وقد أقصيت أنقرة جزئياً من تحالفات الطاقة الإقليمية التي جمعت بين مصر وإسرائيل واليونان وقبرص الجنوبية. ومع تحوّل المشهد السياسي في قبرص الشمالية، قد تنفتح نافذة جديدة أمام ديبلوماسية الطاقة بدل ديبلوماسية القوة.
يدرك أرهورمان، بخلفيته القانونية والأكاديمية، أن أي تسوية سياسية ستنعكس مباشرة على موازين الطاقة الإقليمية، وبالتالي فإن فتح قنوات الحوار مع نيقوسيا واليونان، بإشراف أوروبي-تركي، يمكن أن يحوّل الغاز من أداة نزاع إلى رافعة تعاون، خصوصاً إذا ما أُدرجت تركيا في معادلة التصدير إلى أوروبا عبر خطوط آمنة ومشتركة.
هويّة قبرصية - تركية قيد التشكّل
من الزاوية الإسرائيلية، تشهد المنطقة تقاطعاً بين الملفات الأمنية والطاقوية. تل أبيب، التي قبلت أخيراً بدور لأنقرة في ملف غزّة، قد تنظر إلى فوز أرهورمان على أنه فرصة لتقليص التوتر في شمال المتوسّط، وتحقيق بيئة أكثر استقراراً لمشاريع الغاز. كما أن وجود قيادة قبرصية معتدلة يقلل من احتمالات التصعيد ويعزز فرص التعاون الثلاثي (تركيا-إسرائيل-قبرص).
من المتوقع أن تشهد الأسابيع المقبلة جولات ديبلوماسية بين المبعوث الأممي والقيادة الجديدة في نيقوسيا الشمالية. أرهورمان أعلن في خطابه الأول أنه "منفتح على مفاوضات مباشرة دون شروط مسبقة"، مع تأكيده على "الندية والمساواة السياسية". إذا نجحت هذه المبادرة، فقد نكون أمام عودة عملية السلام القبرصية إلى واجهة السياسة الدولية بعد ركود دام أكثر من خمس سنوات.
ورغم الخلافات، ستجد الحكومة الجديدة في قبرص نفسها مضطرة إلى التنسيق مع أنقرة في السياسات الخارجية، لكن ضمن علاقة مؤسساتية متوازنة. فأنقرة لا تزال المموّل الرئيس للبنية التحتية في الشمال، ولا يمكن تجاوزها اقتصادياً. غير أن أرهورمان سيحاول إعادة تعريف العلاقة على أساس الشراكة لا التبعية، وهو اختبار صعب في ظلّ التوازنات الإقليمية الحساسة.
قد تكون هذه الانتخابات بداية تشكّل وعي قومي قبرصي تركي جديد، لا ينفي الجذور التركية لكنه يطالب باستقلال القرار المحلي. هذه الهوية المدنية قد تسهم في تهدئة الانقسامات، وتمنح الشمال القبرصي موقعاً تفاوضياً أكثر توازناً في أي تسوية مقبلة.
أما بالنسبة لأنقرة، فإن النتيجة الجديدة يمكن أن توفّر لها فرصة مرحلة جديدة من الانفتاح البراغماتي، تعيد من خلالها حضورها في شرق المتوسط عبر التعاون لا التحدي، وعبر الديبلوماسية لا القوة.
نبض