"عسكرة" بريطانيا بدأت بالتخطيط والعين على محور بكين-موسكو... مرحلة جديدة؟
بريطانيا تزيد وتيرة التسلّح باستراتيجية غير مسبوقة. من دون أدنى شك، يشكّل هذا الاستحقاق الذي أعلنته لندن محط اهتمام على وقع الحماوة العالمية، من جبهة أوكرانيا المشتعلة والاستشراس الروسي إلى الصراع في الشرق الأوسط والتوتّر الإسرائيلي – الإيراني. تريد بريطانيا الانتصار في أي مواجهة مرتقبة، فالتهديدات بالنسبة لها تتكاثر ووفق رئيس وزرائها كير ستارمر إنّ "أفضل طريقة لمنع الصراع هي الاستعداد له".
وفق الاستراتيجية الدفاعية الجديدة، تصنّف بريطانيا روسيا بأنّها خطر "فوري وداهم"، أمّا الصين فتصفها بأنّها "تحدّ يتّسم بالتعقيد والتطوّر". مع هذه الاستعدادات، تنتقل المملكة المتحدة إلى مرحلة حامية وسط كل الفوضى العالمية في خطوة ستكون محل ترحيب من ساكن البيت الأبيض دونالد ترامب، فالولايات المتحدة وبريطانيا تشكّلان إحدى ركائز حلف الشمال الأطلسي، وسبق لترامب أن دعا أعضاء الحلف إلى زيادة الإنفاق الدفاعي مهدّداً على قاعدة "إذا لم يدفعوا، فلن أدافع عنهم".
تعدّت الحرب الميدان الأرضي لتصل إلى الجو والفضاء، وتجد بريطانيا في هذه الاستراتيجية طريقاً للانتصار في وقت ترى فيه أن دولاً أوروبية عدّة غير مهتمّة بما يكفي للتحصّن، في زمن تدق الحرب باب حدودها في أي لحظة. فهل ستكون المواجهة حتمية بين بريطانيا وروسيا؟ وماذا عن التنين الصيني؟

الجاهزية القتالية والتهديد الروسي...
"لا يمكننا تجاهل التهديد الذي تشكّله روسيا. لقد رأينا ما حدث في أوكرانيا قبل أكثر من 3 سنوات. التهديد الذي نواجهه الآن أخطر من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة. نواجه حرباً في أوروبا ومخاطر نووية جديدة وهجمات إلكترونية يومياً وعدواناً روسياً متزايداً في مياهنا ويهدّد سماءنا".
على إيقاع هذه التصريحات، يدفع ستارمر بريطانيا إلى "الجاهزية القتالية"، إذ تعتزم استثمار 1.5 مليار جنيه إسترليني (1.8 مليار يورو) لبناء مصانع جديدة لإنتاج الأسلحة والذخائر مع استثمار 15 مليار جنيه إسترليني (أكثر من 20 مليار دولار) في إنتاج رؤوس نووية سيادية، ومليار جنيه لتطوير القدرات الرقمية من خلال إنشاء قيادة جديدة للأمن السيبراني مع تحديث البحرية البريطانية إلى جانب تنفيذ تحسينات على مساكن العسكريين.
وبذلك تموّل الحكومة بناء 6 مصانع جديدة على الأقل لإنتاج الذخائر ما سيخلق نحو 1800 فرصة عمل، بالإضافة لما يصل إلى شراء حوالى 7 آلاف قطعة سلاح بعيدة المدى.
في السياق، كشفت صحيفة "التايمز" أن وزارة الدفاع تدرس إمكان شراء مقاتلات قادرة على توجيه ضربات نووية. وقد بدأت المفاوضات مع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في هذا الشأن. وستكون هذه الصفقة الأكبر منذ نهاية الحرب الباردة، والمقاتلة الأميركية F-35A هي أول طائرة حربية مرشّحة لتنفيذ تلك المهمة". ومع هذا المسار أيضاً، أعلنت لندن أنّها ستبني 12 غوّاصة هجومية جديدة كجزء من تحالفها العسكري "أوكوس" مع أستراليا والولايات المتحدة.
برّر ستارمر التوجّه لزيادة تمويل قطاع الدفاع بـ"تعاظم التهديدات الروسية المتصاعدة في البحر والجو والفضاء"، معتبراً أنّ "الجاهزية للحرب لم تعد خياراً بل باتت ضرورة استراتيجية"، في حين شدّد وزير دفاعه جون هيلي على أن بلاده "مستعدّة لمواجهة عسكرية مع روسيا إن لزم الأمر".
في الاستراتيجية الدفاعية التي أعدّها الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي جورج روبرتسون، جاء أن "موسكو تمثّل تهديداً شاملاً يمتد من الفضاء إلى الفضاء السيبراني، رغم انشغالها بالحرب الأوكرانية. وأكّدت أن روسيا قد تستعيد قدراتها العسكرية بوتيرة أسرع مما يُعتقد". وقد كشفت تقارير استخباراتية بريطانية عدّة عن "تصعيد" في أنشطة التجسّس والهجمات السيبرانية الروسية ضد البنية التحتية البريطانية.
مع كل هذه الإجراءات، لفت هيلي إلى أن الحكومة تسعى إلى زيادة حجم الجيش البريطاني وهدفها هو رفع عدد الجنود النظاميين إلى 76 ألفاً خلال الدورة البرلمانية الحالية. وقد تعهّد جعل الجيش "أكثر فتكاً بـ10 مرات" من خلال الجمع بين تكنولوجيا المسيّرات المستقبلية والذكاء الاصطناعي والمعادن الثقيلة للدبّابات والمدفعية.
انعكس الغزو الروسي لأوكرانيا على لندن فدعمتها بالأسلحة، وفتحت مخازنها، ما أدّى بالتالي إلى تقليص مخزونها العسكري، وشكّل أيضاً تحدّياً متزايداً لبريطانيا مع النار المشتعلة على أكثر من جبهة، فأتت الاستراتيجية لتُطلق إعادة بناء عاجلة.

"الناتو أولاً"
يخوض ستارمر تحدّي التسلّح متّخذاً إيّاه ركيزة للصمود، حتّى أنّه أعلن تمويل أكبر ميزانية عسكرية منذ الحرب الباردة عبر خفض المساعدات المخصّصة للتنمية خارج البلاد من 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 0.3%.
يعمل ستارمر بالتوازي مع تهديدات "الحليف" ترامب وما صدر عنه منذ تسلّمه قيادة واشنطن، فيؤكّد رئيس الوزراء البريطاني أن سياسة الدفاع "ستكون دائماً حلف الناتو أولاً"، مشدّداً على أن "المملكة المتحدة ستبتكر وتسرّع الابتكار والإنتاج بوتيرة زمن الحرب وستكون أسرع الدول ابتكاراً داخل الناتو".
يشكّل الموقف الأميركي من الناتو في ظل حكم ترامب تنبيهاً للأعضاء، والذي بلغ ذروته مع إخراج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من "العزلة" وعودة التواصل الأميركي - الروسي بشأن الملف الأوكراني. إن الناتو يشكّل التهديد الأكبر لروسيا التي طالما اتّهمته بمحاولة محاصرتها. وهنا، يبرز الموقف البريطاني المتمسّك بهذا الحلف، ولعلّ لندن سعت بمراجعتها الى أن تشكّل الاستراتيجيّة الدفاعية الجديدة حافزاً لباقي الأعضاء للرد على ترامب وتقوية الحلف، المدافع الأقوى عن القارة الأوروبية أمام أي غزو محتمل في المستقبل.
ومنذ تولّي حزب العمّال الحكم في تموز/يوليو 2024، التزمت الحكومة بدفع الإنفاق الدفاعي ليصل إلى 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، مع طموح للوصول إلى 3% ما بين عامي 2029 و2034.
أمام كل هذا، ومن خارج التكتل، يتماشى التوجّه البريطاني مع مبادرة "الجاهزية 2030" الأوروبية، التي تهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية للاتحاد الأوروبي.
الصين: نار تحت الرماد؟
من بحر الصين الجنوبي إلى القطب الشمالي، تجد بريطانيا نفسها أمام تحدّيات متزايدة، واضعة أمامها أيضاً التهديد من إيران وكوريا الشمالية والجماعات الجهادية.
ولم تتجاهل الاستراتيجية البريطانية بكين إذ وصفتها بأنّها "خصم تكنولوجي واستراتيجي"، مشيرة إلى توسّع نفوذ بكين عالمياً وانتشار تقنيّاتها وزيادة خطر الهجمات السيبرانية، مع استمرار تحديث الجيش الصيني.
وفق مراجعة الأمن والدفاع البريطانية، تصف الحكومة البريطانية الصين بأنّها "تحدٍ ممنهج ذو طموحات عالمية تتعارض مع قيمنا ومصالحنا".
ترى بريطانيا توسّع نفوذ بكين السياسي في أفريقيا وآسيا مع قدرات سيبرانية متطوّرة لجيشها، بالإضافة إلى السباق معها للسيطرة على الذكاء الاصطناعي والفضاء، من دون إغفال ملف التجسّس.
فما هي أبرز المعوقات في طريق هذه الاستراتيجية الدفاعية؟
نبض