
مع اقتراب موعد الانتخابات الفيدرالية الألمانية تتزايد المخاوف في شأن نفوذ روسيا ودعايتها المضللة، وهذا ما يضع الدولة أمام معضلة.
فقد اكتسبت الدعاية الروسية قبل الانتخابات زخماً متزايداً، وكشفت تحقيقات استقصائية بينها واحد لموقع "كوركتيف"، أنّ حملة التضليل الروسية "العاصفة 1516"عمدت مثلاً إلى توزيع مقالين حملا معلومات كاذبة استهدفت المرشح لمنصب المستشار زعيم الحزب المسيحي الديموقراطي فيردريش ميرز ومرشح حزب الخضر روبرت هابيك، ونُشر المقالان على صفحات الحملة بعنواني "ناراتيف" و"نظرة عامة أسبوعية من ميونيخ"، وتضمّنا صوراً و"فيديو" تُستخدم لبناء قصص تشهيرية. وشكّك مقال بالصحة العقلية لميرز استناداً إلى وثائق مزوّرة، كما زعم مقال أنّ هابيك وزميلته في الحزب كلاوديا روث متورطان في فضيحة فساد مع أوكرانيا.
وأوضح الخبير توماس براي في حديث صحافي أنّ الدعاية الروسية تعتمد على روايات بسيطة مشحونة عاطفياً، من بينها أنّ الغرب الليبرالي يهدّد القيم التقليدية مثل الأسرة والدين واللغة، ومثل هذه الرسائل جذّابة للجمهور، وبخاصّة الفئة المحافظة. وقال براي إنّ وسائل التواصل مثل "تيك توك" تلعب دوراً رئيساً من خلال تضخيم المحتوى المؤيد لروسيا، وهذا ما أثّر مثلا في رومانيا حيث تمّ إلغاء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لأنّ مرشحاً غير معروف فاز بشكل مفاجئ بفضل الدعم الروسي الهائل في وسائل التواصل الاجتماعي.
تجدر الإشارة إلى أنّ حملة "العاصفة 1516" كانت نشطة بالفعل في الولايات المتحدة العام الماضي، وبالأخصّ خلال الحملة الانتخابية الرئاسية حيث تعرّضت المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس لهجمات وحملات تشهيرية، وحينها توصّلت التحقيقات إلى أنّ مشغّلي هذه الحملات لديهم ارتباط بجهاز الاستخبارات العسكرية الروسية "جي آر يو"، وإلى أنّهم قاموا بتحويل تركيزهم فجأة إلى ألمانيا بعد أن تمّ الإعلان عن تنظيم انتخابات نيابية عامّة مبكرة.
إثارة المشاعر والشكوك
وبيّنت قراءات سياسية ومعلومات مستقاة من السلطات وأجهزة الاستخبارات السرية التي تتابع الوضع عن كثب، أنّ روسيا تحاول كسب النفوذ بأساليب وأنماط جديدة بينها إثارة المشاعر والشكوك. هذه المعطيات دفعت المسؤولين إلى التحذير من تداعياتها على مسار الانتخابات الفيدرالية، إن كان بالتحريض أو التضليل أو التحشيد لدعم طرف ضدّ آخر. وفي هذا السياق، اعتبر وزير داخلية ولاية هيسن رومان بوسيك المنتمي إلى الحزب المسيحي الديموقراطي أنّ انتشار الأخبار الكاذبة بسرعة في مواقع التواصل يجعل من الصعب التمييز بين المصادر الموثوقة للمعلومات والأخبار المزيفة، والتضليل يقوّض ثقة الناس بالمؤسسات الاجتماعية ويسمّم الحوارات المفتوحة التي تُعدّ ضرورية للديموقراطية الفعّالة.
وشرح الباحث السياسي توماس ستيلر لـ "النهار" أنّ "الهدف الأساسيّ لهذه الدعاية المضللة، مع ارتفاع حماوة الحملات الانتخابية، هو استقطاب مجموعة الناخبين الذين لم يحسموا أمرهم بعد، وبخاصة جيل الشباب منهم"، مشيراً إلى أنّ اليمين الشعبوي يخوض الانتخابات معززاً بحضور قوي وتأييد واسع، وبالتالي يمكنه التركيز بشكل أكبر على إقناع المتردّدين، ومشدّداً على أنّ حزب البديل اليميني الشعبوي يتعمد إثارة المخاوف الاقتصادية وأخطار اللجوء والهجرة وتشويه سمعة الأحزاب التقليدية.
تعزيز الخدمة السرّية
وفيما يتصاعد القلق في برلين من مستوى الهجمات السيبرانية وحملات التضليل الروسية، وهو ما عبّرت عنه وزيرة الداخلية نانسي فيزر أخيراً محذّرة من أخطار تشويه الحملات الانتخابية، كذلك وكالات الأمن الغربية، توقّع المكتب الاتحادي لحماية الدستور (الاستخبارات الداخلية) إقدام موسكو على تنفيذ المزيد من الأعمال التخريبية وعلى نطاق واسع بواسطة أفراد وشبكات للتأثير سلباً على عملية الانتخاب. حتّى أنّ العديد من المعاهد التي تهتمّ بمعايير الشفافية في الانتخابات أفادت أيضاً بأنّ هناك مجموعات تريد "بالتأكيد" التأثير عليها بشكل غير قانوني.
وللتصدّي لهذه الارتكابات، تمّ إنشاء فريق عمل خاص للخدمة السرّية المحلية مهمّته مناقشة كلّ الأمور وتمحيصها مع السلطات الأمنية وسلطات أمن الولايات والشركاء الآخرين.
استراتيجيّات مضادّة
وهناك إجماع في أوساط الخبراء الأمنيين على أنّ نشر المعلومات المضلّلة عمداً هدفه زعزعة الثقة بين الأحزاب القائمة وناخبيها وخلق حالة من عدم اليقين في المجتمعات الغربيّة بتأليب السكان ضدّ بعضهم بعضاً، كما وزيادة التوترات السياسية.
وفي الإطار، بيّنت تحليلات أنّ العديد من السياسيين الأوروبيين الذين يمثلون موقفاً مؤيّداً لروسيا ضالعون في تغذية هذه التوترات، بينهم رؤساء الوزراء، المجري فيكتور أوربان والسلوفاكي روبرت فيكو والصربي ألكسندر فوتشيتش، وهناك خشية من أن تنضمّ إليهم النمسا بعد أن أصبح حزب "الحرية" المقرّب من موسكو قريباً من تحقيق فوز محتمل في الانتخابات مع ترشيحه أندريه بابيس.
أمّا لجهة الاستراتيجيات المضادة التي يمكن للاتحاد الأوروبي اتباعها، فيرى الخبراء أنّ على الاتحاد أن يكون أكثر صرامة وحزماً في تقييد نشاط هذه الجهات، وأن يلعب دوراً محورياً في التثقيف الإعلامي ومواجهة التضليل وآلياته بين الشباب. وقالت تعليقات إنّه يتعيّن على التكتّل أن يضع شروطاً واضحة، باعتباره المستثمر الأكبر في بلدان مثل مولدوفا وجورجيا، وربط المساعدات المالية بالإصلاحات الاقتصادية، ومعاقبة من يستمرّ بالعمل للروس.