ملقا... درة التاج الماليزي ودرس التعددية الذي يجب أن نتعلمه
الأمطار الاستوائية تهطل هنا بلا إنذار. احتميت تحت مظلة أحد بيوت الحي الصيني، كان ثمة نافذة متسعة يطل منها عجوز أخذ يحدثني ريثما يتوقف المطر، قال لي مبتسماً إنه يعيش هنا منذ 60 عاماًً، وزخات السماء لا تتوقف. ضحكت، وشممتُ رائحة ملقا؛ مزيج من رائحة المطر، وملح البحر، وبخور المعابد.
كانت زيارة مدينة ملقا استثنائية، فلم أكن قد ضمنتها في خطة رحلتي من البداية. المدينة ليست وجهة معروفة في برامج السياحة التقليدية إلى ماليزيا، لاسيما المجموعات السياحية العربية، لكن صديقاً مقيماً في البلاد رشحها بقوة، وكان ترشيحاً موفقاً.
في منتصف تموز/يوليو الماضي، وصلت ملقا. بعد يوم واحد من الزيارة، أطرقت رأسي فكرة كتابة قصة صحفية عنها. في الوقت نفسه، كنت أتابع -بطبيعة العمل- أخبار اشتباكات السويداء في سوريا التي تغرق منصات التواصل.
كانت مفارقة لافتة؛ بينما يتعايش البشر المختلفون عرقياً ودينياً وثقافياً في ماليزيا، لا يزال عالمنا العربي يغرق في موجات لا تهدأ من الاقتتال على المذهب والطائفة، رغم كل ما يجمعنا من مشتركات ثقافية.
أخذت أتأمل هذه المفارقة، وأنا أسير في شوارع ملقا العتيقة. أرى بقايا الإرث الاستعماري، والمساجد، والمعابد البوذية والهندوسية؛ حيث يلتقي، في مشهد واحد، الملايو المسلمون، والصينيون البوذيون أو المسيحيون، والهنود الهندوس، فقررت أن يكون هذا المشهد المدهش العمود الفقري لقصتي عن ملقا، وربما عن البلاد بأكملها، باعتبار المدينة تجسيداً بليغاً لقصة الدولة الماليزية بأكملها. لكن هل صورة التعايش مثالية حقاً كما تبدو لي ولغيري من السياح؟!
ضغائن عرقية
كان تان، سائق التاكسي الصيني، بوابتي الأولى لفهم الحالة الماليزية. فعند وصولي إلى ملقا، استقللت سيارة أجرة رافقتني طوال اليوم. لمست من السائق إحساساً فوقياً تجاه الأعراق الأخرى، الملايو والهنود. جرفنا الحديث إلى السياسة وبدأت الصورة تتشكل: يبدو أن ثمة ضغائن عرقية كامنة تحت السطح.
تجلت هذه الضغائن عندما سألت تان عن مهاتير محمد. تغيرت نبرة صوته وقال: "الناس في الخارج يعتبرونه بطل النهضة الماليزية، لكن بالنسبة لنا نحن الصينيين لم يكن منصفاً. سياساته عمقت امتيازات البوميبوترا، وجعلت الاقتصاد أكثر اعتماداً على القرابة السياسية والمحسوبية. لم أشعر يوماً أنه رئيس وزراء للجميع".
يشكل الملايو (البوميبوترا "أبناء الأرض") نحو ثلثي السكان، وكانوا تاريخياً أقل حضوراً في التجارة والتعليم، بينما هيمن الصينيون على الاقتصاد والتقنية رغم أنهم أقلية (22 في المئة). هذه الفوارق خلقت حساسيات تتجدد بين حين وآخر، وتجعل كل مجموعة ترى نفسها مستحقة لمكانة أعلى.
كان عام 1969 مفصلياً في ماليزيا مع اندلاع أعمال عنف عرقي بين الملايو والصينيين في كوالالمبور. أعقب ذلك إطلاق "السياسة الاقتصادية الجديدة" لإعادة توزيع الثروة وكسر الارتباط بين العرق والدور الاقتصادي؛ فارتفعت حصة الملايو في الشركات والوظائف الحديثة، وتراجع الفقر من 49 بالمئة عام 1970 إلى 17 بالمئة بحلول عام 1990.
لكن دراسة أممية لاحقة حذرت من آثار جانبية؛ إذ رافقت التجربة محسوبيات وترتيبات شكلية عرفت بـ"علي بابا"؛ حيث يسجل المشروع باسم شريك ملايو للحصول على الامتيازات، بينما يديره الصيني فعلياً. وقد أثارت هذه الممارسات استياء غير الملايو الذين رأوا في السياسة تمييزاً، فيما جنت النخبة السياسية ورجال الأعمال النصيب الأكبر من فوائدها.
إذن ليست الصورة وردية تماماً؛ فالتعايش الماليزي معقد، ومحصلة جهود وسياسات متراكمة. ومنذ أن استقلت ماليزيا عام 1957، ثم شهدت انفصال سنغافورة عام 1965، ظل هذا البلد الفتي يبحث عن صيغة توازن بين أعراقه المتعددة، في ظل مناوشات عرقية من آنٍ لآخر.
ملقا.. كتاب التاريخ المفتوح
إذا كانت التجربة الوطنية تعكس محاولات للاستقرار السياسي على مستوى الدولة، فإن ملقا تجسد صورة مكثفة لجذور التنوع العرقي كمدينة؛ حيث تجيب عن كثير من الأسئلة العالقة حول الهوية. في شوارعها تلتقي حصون البرتغاليين، وكنائس الهولنديين، بمعابد الصينيين وأسواقهم الشعبية، إلى جانب مساجد ذات معمار مميز.
ولم تكن مكانتها وليدة المصادفة؛ فقد شكلت ملقا لقرون واحداً من أهم الموانئ في أرخبيل الملايو، نقطة عبور للتجارة بين الشرق والغرب، وملتقى للتجار من الصين والهند والعالم العربي.
واليوم يعد الحي الصيني "جونكر ستريت" شاهداً على حضور التجار الصينيين منذ القرن الخامس عشر، الذين أسسوا مجتمع البابا نيونيا؛ وهو ما يُعرف أيضاً بالـبيراناكان؛ أي أحفاد التجار الصينيين الذين تزاوجوا مع الملايويات وورثوا مزيجاً فريداً من التقاليد.

هذا المجتمع طبع ملقا بعاداته الخاصة في المطبخ والعمارة والأزياء والطقوس العائلية. وقد تعرفت أكثر على هذا العالم من خلال زيارة متحف بابا نيونيا – بيت عائلة تشان العريق – الذي يقدم نافذة حية على تاريخ البيراناكان؛ حيث تمتزج في الغرف المزخرفة والأثاث المطعّم بالصدف والجداريات الحمراء ملامح الهوية الصينية مع الروح الملايوية المحلية.
غير بعيد عن الحي الصيني، أخذني تان بسيارته إلى ضفاف نهر ملقا حيث ينتصب المتحف البحري الذي يقام داخل نسخة من السفينة البرتغالية الغارقة "فلور دي لا مار"، في تذكير بفترة السيطرة البرتغالية على المدينة. وبالقرب منه، يطل مبنى ستادهيوس (Stadthuys) الهولندي بواجهته الحمراء المميزة، وقد تحول اليوم إلى متحف للتاريخ، بعد أن كان مقراً للحكام الهولنديين (1641–1824)، ثم للإدارة البريطانية (1824–1957).
أما على أطراف المدينة، فقادنا الطريق إلى الحي البرتغالي الكاثوليكي؛ حيث يقيم أحفاد المستعمرين البرتغاليين الأوائل الذين حكموا ملقا بين عامي 1511 و1641. هناك ما زالت لغة Papia Kristang الكريولية تتردد على ألسنة الشيوخ، وتحيي مهرجانات سان جوان وسان بيدرو ذاكرة القرون بقداديس وصلوات ومواكب قوارب الصيادين.
منذ أن وضع بارامسوارا، الأمير الهندوسي، حجر الأساس لملقا عام 1400، ثم تحولت لاحقاً إلى سلطنة إسلامية كبرى، ظلت المدينة مثل نهر متدفق؛ يتقاطع فيه الشرق والغرب كخيوط في نسيج واحد، صاغته الذاكرة الاستعمارية ورسمت مجراه يد التعددية العرقية. وهكذا، تجسد ملقا روح ماليزيا المتعددة، وتذكرنا نحن العرب أن النهضة لا تبنى على نقاء الدم أو مجد الماضي، بل على قدرة البشر على العيش معاً رغم اختلافاتهم.
نبض