خطة ترامب الأوكرانية تصطدم بأحلام أوروبا الاستقلالية
ثمة من يقول إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يبالغ في مداهنة نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في خطة الـ28 بنداً التي قدمتها واشنطن لإحلال السلام في أوكرانيا، حتى أن محللين غربيين يصفونها بأنها "موالية لبوتين بشكل مفرط". لكن المثير للريبة هو تعامل موسكو معها بحذر استراتيجي. فرغم اعتراف بوتين علناً بأن الخطة "ربما تشكل أساساً لتسوية نهائية"، فقد استدرك قائلاً: "لم تُناقش هذه الخطة معنا"، ما يمكن أن يعكس حسابات روسية معقدة: الخطة تحقق أهدافاً روسية، لكنها لا تحقق أهداف روسيا.
وضعت واشنطن كييف في موقف حرج، وأعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن بلاده تواجه خيارين أحلاهما مر: التضحية بالكرامة الوطنية أو المخاطرة بفقدان حليف رئيسي، مفضلاً الهروب إلى الأمام بوعد تقديم "بدائل" من الخطة الأميركية.

لا يريدونها
يُقدّم الأوروبيون رفضهم الخطة الأميركية على أنه دفاع عن مصالح أوكرانيا والأمن الأوروبي، غير أن الديناميكيات الحقيقية أشد تعقيداً، وتعكس صراعاً حول من يشكّل مستقبل القارة.
فغير ثنائي الصراع، يقف في صدارة رافضي الخطة الأميركية الثلاثي الأوروبي الأقوى: إيمانويل ماكرون رئيس فرنسا، وفريدريش ميرتس المستشار الألماني، والسير كير ستارمر رئيس الوزراء البريطاني. ولم تقتصر معارضتهم على رفع أصواتهم ضد الخطة، بل بدأت فرنسا وبريطانيا بإعداد خطة مضادة، في محاولة صريحة لتحويل اتجاه المسار السياسي بعيداً عن واشنطن.
ينتقد ميرتس الطريقة التي تمت بها الخطة، قائلاً إن "الحروب لا تحسمها القوى الكبرى على حساب القوى الصغرى"، بينما أكد ستارمر ضرورة التنسيق الوثيق مع واشنطن وكييف لتحقيق "سلام عادل ودائم". أما ماكرون فأكد مبدأ أن "لا سلام في أوكرانيا من دون الأوكرانيين"، وهو المبدأ الذي تعتصم به أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، مؤكدة أن الاتحاد الأوروبي لم يُستشَر في صياغة الخطة الأميركية.

وتتخذ كايا كالاس، الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، موقفاً مؤسسياً حاداً، إذ صرّحت بأن الخطة الأوروبية للسلام في أوكرانيا واضحة جداً، تقوم على بندين لا ثالث لهما: "إضعاف روسيا ودعم أوكرانيا"، في عبارة تعكس رفضاً صريحاً لأي مفاوضات توازن المصالح. حتى إنها ذهبت أبعد من ذلك، واصفة روسيا بأنها تؤدي "خدمة شفوية" لترامب بشأن السلام، وحذرت من أن "الضغط يجب أن يكون على المعتدي، لا على الضحية".
ليست معارضة دول البلطيق وبولندا مجرد موقف سياسي، بل تعكس قلقاً وجودياً حقيقياً. فقد وصفت هذه الدول الخطة بأنها "تشجيع لعدوان بوتين المقبل ضد الناتو". وأعرب وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي عن معارضته صراحة، وأصر على أن أي اتفاق سلام يجب أن يضمن مشاركة أوروبية كاملة، معتبراً أن "الأمن الأوروبي يعتمد بقوة على نتائج اتفاق السلام".
ماذا يخيف أوروبا؟
تقترح الخطة الأميركية خفض عديد الجيش الأوكراني من 900 ألف جندي إلى 600 ألف، وهذه تنازلات كبيرة من وجهة نظر الأوروبيين، إذ يرون أن هذا العدد "غير كافٍ" لحماية أوكرانيا من عدوان روسي مستقبلي، وعلى القوات الأوكرانية أن تحتفظ بقدرتها على الدفاع الفعال عن سيادة أوكرانيا. ويردّ الأميركيون بأن 600 ألف جندي سيجعلون أوكرانيا صاحبة ثاني أكبر جيش في أوروبا بعد روسيا، وهذا العدد يزيد كثيراً عما طلبته أوكرانيا نفسها في مفاوضات اسطنبول في 2022.
كذلك، تتطلب الخطة الأميركية من أوكرانيا التنازل عن شبه جزيرة القرم ومناطق واسعة من دونيتسك ولوغانسك، وهذا مرفوض أوروبياً وفق مبدأ أن "الحدود لا يمكن تغييرها بالقوة". وينطلق الأميركيون في هذا البند من حقيقة أن استعادة أوكرانيا أراضيها كاملة هدف غير قابل للتحقق بعد أربع سنوات من الحرب الدموية.
وتشترط الخطة الأميركية الاعتراف بالروسية لغةً رسمية في أوكرانيا، والاعتراف بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية. واعتراض أوروبا يأتي من منطلق رفض فرض النموذج الروسي على أوكرانيا ذات الطابع الغربي.
أخيراً، الأصول الروسية المجمدة مشكلة حقيقية. تاريخياً، احتفظت أوروبا بنحو 210 مليارات يورو من الأصول الروسية المجمدة أداة ضغط قوية. تقترح الخطة الأميركية استخدام 100 مليار دولار منها لإعادة بناء أوكرانيا. يرى الأوروبيون أن هذا يحرمهم أداة ضغط حاسمة، وأن التكلفة الحقيقية التي تقدرها الأمم المتحدة والبنك الدولي بـ486 مليار دولار، ستقع على عاتق الأوروبيين بدلاً من روسيا. وقد وصف مسؤول أوروبي هذا الأمر بأنه "وحشية اقتصادية".

نزاع على النفوذ
ما قيل حتى الساعة سطحي وتكتيكي، لكن الصراع أعمق استراتيجياً: هل ستكون أوروبا تابعة لأميركا من الآن فصاعداً؟ قد لا تحقق خطة ترامب النصر لروسيا، وقد لا تخرج أوكرانيا من مأزقها، لكنها بالتأكيد تحقق انتصاراً للأمن الأميركي الإقليمي، فهي تخدم المصالح الجيوسياسية الأميركية أولاً.
ولأن الأمر هذا مرفوض، بدأت أوروبا بصوغ خطة مضادة تعكس أولوياتها الخاصة، مركزةً على استقلالية عسكرية أوكرانية أقوى بتجنب الخفض المقترح للقوات الأوكرانية، وضمانات أمنية أوروبية مباشرة بالسماح بنشر قوات أوروبية في أوكرانيا وهو الأمر المحظور في الخطة الأميركية، وحفظ الأصول الروسية المجمدة تحت السيطرة الأوروبية بدلاً من تحويلها إلى صناديق استثمارية، واحترام أكبر لسيادة أوكرانيا بما فيها إمكان انضمامها لاحقاً إلى الناتو، البند الذي ساهم في تفجير الأزمة التي أدت إلى الغزو الروسي لأوكرانيا.
بالتالي، ما يحدث الآن ليس معارضة أوروبية عادية لخطة ترامب، إنما هو صراع على منصب "قائد أوروبا". فالأوروبيون يحاولون استعادة استقلاليتهم الاستراتيجية التي فقدوها تدريجاً خلال العقود الماضية. إلا أن مسيرتهم هذه محفوفة بالمخاطر. فأوكرانيا تعتمد فعلياً على الدعم الأميركي، لا الأوروبي. وهذا يمنح ترامب رافعة نفسية – سياسية - عسكرية قوية. إلى ذلك، تفرّق الموقف يضعف أوروبا، فالمجر مثلاً تؤيد الخطة الأميركية، ولو جزئياً.
إنها لحظة حاسمة في العلاقات بين ضفتي الأطلسي. إذا نجحت الخطة الأميركية، فلن تكون أوروبا حاضرة على مائدة السلام وتقاسم المغانم، وإذا نجحت أوروبا في فرض خطتها البديلة، فقد تبدأ عملية إعادة موازنة جيوسياسية في القارة الأوروبية. فلننتظر.
نبض