إيران – روسيا: من التهديد الأحادي إلى التعاون المتبادل
إن أردنا تحليل تاريخ علاقات إيران وروسيا في الـ 500 عام الأخيرة وتقويمها، يمكننا تصنيف هذا التاريخ المليء بالصعود والهبوط في ثلاث حقبات رئيسية:
الحقبة الأولى: علاقة إيران بروسيا في عصر القياصرة (نحو 400 عام): في عهد الدولة الصفوية في إيران، كانت العلاقات مع روسيا قائمة على المنافسة، لكنها تحولت في عهد القاجاريين إلى تهديد أحاديّ من جانب روسيا القيصرية.
الحقبة الثانية: علاقة إيران بالاتحاد السوفياتي: كانت علاقة قائمة على تعاون اقتصادي محدود وتهديد إيديولوجي شيوعي في عصر الحرب الباردة.
الحقبة الثالثة: العلاقات في عصر روسيا ما بعد الانهيار (منذ 1990): ارتقت العلاقات الثنائية من التهديد والمنافسة إلى التعاون الاستراتيجي.
لماذا تثير روسيا الذكريات السلبية في نفوس الإيرانيين؟
اللافت للنظر أن العلاقة مع روسيا في هذه الحقب تثير في الذاكرة الجماعية الإيرانية ذكريات مريرة، لعشرة أسباب:
1. المنافسة الروسية مع الدولة العثمانية منذ عصر بطرس الأكبر فصاعداً ضد إيران، واندلاع حروب متكررة بين إيران وروسيا في نزاع على أراض خاضعة للسيطرة الإيرانية في القوقاز مثل جورجيا وداغستان وأبخازيا.
2. فرض اتفاقيتي غولستان (1813) وتركمانتشاي (1828) المشينتين والظالمتين في أوائل القرن التاسع عشر (عصر القاجاريين) بعد حربين ضاريتين، أدتا إلى خسارة إيران أجزاء واسعة من أراضيها في القوقاز.
3. التدخل المستمر في الشؤون الداخلية الإيرانية، واستحواذ روسيا على امتيازات اقتصادية شبه استعمارية في المنافسة مع بريطانيا خلال القرن التاسع عشر.
4. معارضة روسيا القيصرية للثورة الدستورية في إيران ومطالب الشعب الإيراني الحديثة (مثل الحرية والبرلمان والتجديد). وبلغت ذروة هذه المعارضة باحتلال القوات الروسية تبريز وميناء أنزلي، وقتلهم عدداً من الدستوريين. ويعدّ قصف البرلمان في طهران (في عصر محمد علي شاه القاجاري) في أذهان الإيرانيين رمزاً لعداء الروس للشعب الإيراني.
5. رغم الثورة البلشفية (1917) ومعاهدة الودّ التي ألغت اتفاقيات روسيا القيصرية مع إيران، احتل الاتحاد السوفياتي شمالي إيران في الحرب العالمية الثانية، ودعم عملاءه في بعض المناطق الشمالية والغربية، خصوصاً في أذربيجان وكردستان، ضد استقلال إيران وسلامة أراضيها.
6. تشكيل حزب توده الشيوعي في إيران (1941) ودعمه حتى انحلاله (1983) واعتقال أعضائه. يُعتبر هذا الحزب سبباً للعديد من الإخفاقات الوطنية، بما في ذلك دوره في تمهيد الطريق للانقلاب ضد حكومة محمد مصدق الوطنية (1953).
7. الدعم السوفياتي الشامل لصدام حسين في الحرب الإيرانية - العراقية (1980-1988)، وهي أطول حرب في القرن العشرين، قُتل فيها مليون شخص، بينهم 200 ألف إيراني.
8. عدم الوفاء الروسي في التعاون العسكري والنووي، خصوصاً في بيع أنظمة الدفاع الجوي إلى إيران وبناء محطة بوشهر النووية التي لم تكتمل بعد عقود.
9. استخدام روسيا "بطاقة إيران" في الملف النووي للحصول على امتيازات من أوروبا وأميركا.
10. عدم التعاون العسكري مع إيران خلال حرب الـ 12 يوماً، التي شنتها إسرائيل ضد إيران (2025)، ما أظهر أن الاعتماد على مساعدة روسيا خطأ استراتيجي.
من التهديد إلى التعاون... لكن بأي ثمن؟
دراسة التطورات في علاقات إيران بروسيا تظهر أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتشكيل الاتحاد الروسي، تحولت العلاقات من التهديد والمنافسة إلى التعاون. مع ذلك، يعتقد بعضهم أن تكلفة هذا التعاون مرتفعة جداً وتفوق فوائده، ونتيجته زيادة التوتر بين إيران وأميركا وأوروبا.
وقد أشار محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني السابق، أخيراً إلى أن الخط الأحمر للروس في علاقتهم مع إيران هو منع تحسين علاقات إيران مع الغرب. وفقاً له، تريد موسكو أن تبقى الخلافات بين إيران والغرب "عظم في الجرح" حتى تتمكن من الصيد في الماء العكر.
في آخر 30 عاماً، حين أدى كل من فلاديمير بوتين في روسيا وعلي خامنئي في إيران دوراً رئيسياً في رسم السياسات الكبرى، توسع التعاون العسكري والأمني والاقتصادي بشكل غير مسبوق بين البلدين، تحت تأثير العدو المشترك (أميركا)، وبلغ ذروته في توقيع وثيقة التعاون الاستراتيجي الشامل لـ25 عاماً بين إيران وروسيا.

السياسة الشرقية: مفتاح التقارب مع موسكو
أكد خامنئي مراراً على "التوجه شرقاً" في السياسة الخارجية، وهذا أدى دوراً أساسياً في تحسين العلاقة مع روسيا. يعني التوجه الشرقي أن تضع إيران التعاون مع روسيا والصين أساساً لتفاعلاتها الدولية والتعاونات الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وأن لا تستثمر في العلاقة مع الغرب، لأن أميركا والدول الأوروبية، بحسب رأي القائد الإيراني، غير موثوقة، كما أن رؤيتهم للعالم وأسلوب حياتهم يتعارض مع النماذج المثالية للجمهورية الإسلامية، وتحسين العلاقة مع الغرب يؤدي إلى تحوّل ثقافي وانهيار النظام من الداخل. بالطبع، يواجه هذا الرأي انتقادات في إيران، حيث يرى البعض أن التناقض الثقافي والعقائدي بين إيران والصين الشيوعية وروسيا أكبر كثيراً من الدول الغربية.
لكن سياسة "التوجه شرقاً" للجمهورية الإسلامية تتوافق تماماً مع سياسة روسيا وبوتين شخصياً. لهذا السبب، زار بوتين طهران مرات عدة في السنوات الأخيرة، والتقى خامنئي، ويتواصل قادة البلدين دائماً من خلال الرسائل والخطابات السرية، وآخرها تسليم أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني إلى بوتين رسالة من المرشد الإيراني (17 تشرين الأول/أكتوبر 2025).
ويقال إن بوتين وعد بتقديم مساعدات عسكرية لإيران، وفي الوقت نفسه نهى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن مهاجمة إيران مرة أخرى. أدى ذلك إلى زيادة الثقة لدى المسؤولين الإيرانيين وتعزيز النهج المعادي لأميركا في إيران بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة.
هل أصبحت إيران أداة بيد بوتين؟
في السنوات الأخيرة، صارت علاقات حكومة الجمهورية الإسلامية بروسيا حميمية جداً، إلى درجة أن بعض الإيرانيين والخبراء يقولون إن إيران، ولإظهار عدائها لأميركا، تحولت عملياً إلى منفذ للسياسات التي يطلبها بوتين، وهذا النهج يتعارض مع سياسة "لا شرقية ولا غربية" التي أعلنتها الجمهورية الإسلامية في عهد آية الله الخميني.
يقول النقاد إن إيران مستعدة لدفع رشاوى أو امتيازات سياسية واقتصادية للشرق، أي روسيا والصين، للوقوف أمام الاستكبار والرأسمالية الغربية، وهذا نهج لا يتوافق مع مصالحها الوطنية.
مع ذلك، وعلى مستوى الخبراء، ثمة مؤيدون يرون أن السياسة الحكيمة هي "التوازن الإيجابي"، أي توسيع مروحة العلاقات مع الغرب والشرق في الوقت نفسه، من دون التضحية بأحدهما للآخر، والحصول على امتيازات أكبر من الجانبين في فضاء تنافسي. في هذا الإطار، تكتسب العلاقة مع روسيا أهمية كبيرة بالنسبة لإيران.
نبض