السفر الجوي منخفض التكلفة إلى توسّع... والشركات الخليجية في المقدمة
في عالمٍ تتغيّر فيه خريطة الطيران بسرعة مذهلة، يشهد قطاع شركات الطيران منخفضة التكلفة تحوّلاً غير مسبوق جعل منه أحد أسرع قطاعات النقل نمواً في العالم. بعدما وصلت إيرادات هذا القطاع عالمياً في عام 2024 إلى ما يقارب 270-280 مليار دولار، في مقابل نحو ثلث مقاعد الطيران التجارية ونحو 27 في المئة من إجمالي المسافرين جواً، بات واضحاً أننا أمام ظاهرة لم تعد هامشية أو تجريبية، بل ركيزة أساسية في صناعة نقلٍ تعيد تعريف نفسها بعد صدمات الجائحة وارتفاع تكاليف السفر.
وعلى الرغم من أن الشركات الكبرى لا تزال تتمركز في أوروبا وأميركا والهند – من أمثال "رايانير" الأيرلندية و"ساوث وست" الأميركية و"إنديغو" الهندية – يتحرك مركز ثقل هذا القطاع تدريجياً نحو الشرق، وتحديداً إلى الخليج العربي. فهنا، لا يشكّل النمو مجرّد توسّع تجاري، بل جزء أصيل من رؤية اقتصادية أشمل تمتد من تنويع مصادر الدخل إلى إعادة صياغة صورة المنطقة على خريطة السياحة العالمية.
تشير الأرقام إلى أنّ شركات الطيران الخليجية منخفضة التكلفة حققت في عام 2024 إيرادات تُقدَّر بنحو 9-11 مليار دولار، وهي حصة تبدو صغيرة قياساً بالسوق العالمية، لكنها لافتة بحساب الحجم السكاني ومذهلة على صعيد السرعة. يكفي أن نجمع أربعة أسماء فقط – "فلاي دبي" و"العربية للطيران" الإماراتيتان و"فلايناس" السعودية و"الجزيرة" الكويتية – لنصل إلى نحو ثمانية مليارات دولار من الإيرادات وأكثر من 50 مليون مسافر سنوياً، قبل إضافة "فلاي أديل" السعودية و"طيران السلام" العُمانية وغيرها. وهنا يظهر الفارق النوعي: لا ينمو القطاع في الخليج تدريجياً، بل يقفز قفزات متتالية مدفوعة بقوة الطلب وبنية تحتية تتوسع من دون توقف.
تعتمد الإمارات نموذجاً ناضجاً: تتجاوز "فلاي دبي" 3.5 مليارات دولار من الإيرادات وهوامش ربحية تُحسَد عليها، بينما تواصل "العربية للطيران" توسيع شبكاتها عبر ستة مراكز تشغيل تمتد من الشارقة إلى الدار البيضاء. أما في المملكة العربية السعودية، فيتحول الطيران منخفض التكلفة إلى أداة استراتيجية. مع تجاوز عدد المسافرين عبر مطارات المملكة 128 مليون شخص في عام 2024 واستهداف 150 مليوناً قريباً، تعمل "فلايناس" و"فلاي أديل" لفتح أسواق جديدة تتجاوز الرحلات الداخلية والعمرة نحو آسيا وأفريقيا، مدعومتين بطلب ديني وسياحي مستدام، وباستثمارات ضخمة تشمل شراء طائرات عريضة المتون، في خطوة تُعِيد تعريف مفهوم "الطيران الاقتصادي" نفسه.
هذا الزخم الخليجي لا يمكن فصله عن الجغرافيا الاقتصادية الجديدة. يشهد الإقليم انفجاراً في السفر القصير والمتوسط المدى: سياحة نهاية الأسبوع، وحركة العمالة الوافدة، والرحلات الموسمية للحج والعمرة، والسفر إلى وجهات شاطئية تُسوَّق اليوم بوصفها بدائل معقولة لتكلفة السفر الباهظة نحو أوروبا. ومع صعود المدن الخليجية كمقاصد سياحية عالمية – شاملة الوجهات الجديدة في مختلف أرجاء الخليج العربي – بات الطيران منخفض التكلفة جزءاً من بنية اقتصادية وليس مجرد نشاط تجاري.
أما على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأوسع، فالمشهد أكثر تعقيداً. يجعل غياب تعريف موحّد للسوق وصعود شركات أوروبية وتركية على خطوط المغرب وتونس ومصر تقدير الحجم بدقة مهمة شبه مستحيلة. لكن ما يمكن قوله بوضوح هو أن السوق الإقليمية تتراوح بين 10 و15 مليار دولار سنوياً، وأن الخليج يمثّل كتلتها الأكثر ديناميكية وتمويلاً. وبينما تعتمد أسواق شمال أفريقيا بدرجة كبيرة على شركات أجنبية، يبني الخليج نماذج محلية قوية تستند إلى رؤوس أموال ضخمة ورؤى حكومية بعيدة الأجل. يُذكَر أن شركات الطيران العربية منخفضة التكلفة خارج دول مجلس التعاون الخليجي تشمل "إر كايرو" و"فلاي إيجيبت" المصريتين و"نوفلار" التونسية.
عالمياً، لا يبدو هذا الاتجاه في طريقه إلى التباطؤ. مع ارتفاع أسعار التذاكر التقليدية وتقلّب أسعار الوقود، تتقدم الشركات منخفضة التكلفة لتملأ الفجوة بين الطلب القوي والقدرة الشرائية المحدودة. لكن الخليج يضيف إلى هذه المعادلة طبقة مختلفة: ليس الهدف نقل الركاب بأرخص سعر فحسب، بل استخدام الأجواء نفسها كأداة لنمو اقتصادي عميق. وفي المحصلة، إذا كان العقد الماضي من الزمن هو زمن أوروبا وآسيا في الطيران المنخفض التكلفة، يتهيأ العقد المقبل لعنوان جديد: الخليج لا ينافس في الأجواء فقط… بل يعيد كتابة قواعدها.
نبض