اتفاق موقت ينهي الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة ويعيد بعض الهدوء للأسواق
بعد أسابيع من الجمود السياسي الذي شلّ عمل المؤسسات الفيدرالية وأثار مخاوف واسعة بشأن الاقتصاد الأميركي، توصل مجلس الشيوخ مساء الأحد إلى اتفاق مبدئي على إعادة فتح الحكومة الفيدرالية، في خطوة اعتُبرت انفراجة كبرى قد تنهي أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد.
ويقضي الاتفاق، الذي حظي بدعم الحزبين الديموقراطي والجمهوري، بتمويل عدد من الإدارات والوكالات الفيدرالية حتى 30 كانون الثاني/يناير، على أن تُستكمل المخصصات المالية لبقية القطاعات حتى نهاية العام المالي الجاري. كما يتضمن صرف الرواتب المتأخرة للموظفين الفيدراليين واستئناف التحويلات المالية التي كانت مجمّدة للولايات، ما يسمح بإعادة تشغيل الأنشطة الحكومية تدريجاً خلال الأسبوع الجاري.
الإغلاق الحكومي: نتيجة مباشرة لانقسام سياسي عميق
الإغلاق الحكومي ليس حدثاً استثنائياً في التاريخ الأميركي، لكنه في السنوات الأخيرة بات يتكرر بوتيرة مقلقة نتيجة تزايد حدة الانقسام السياسي، والاستقطاب داخل الكونغرس حول أولويات الإنفاق العام وسقف الدين الفيدرالي. فالمشهد السياسي الأميركي أصبح أكثر انقساماً من أي وقت مضى، إذ يتبنى الجمهوريون توجهات أكثر تشدداً في ملفي الإنفاق والعجز، بينما يدافع الديموقراطيون عن استمرار برامج الدعم الاجتماعي والإنفاق على البنية التحتية والتحول الطاقوي.

هذه المرة، اندلع الخلاف حول العجز الفيدرالي المتصاعد الذي تجاوز 1.8 تريليون دولار، أي ما يعادل نحو 6.3% من الناتج المحلي الإجمالي وهو من أعلى المعدلات خلال العقود الأخيرة خارج فترات الركود أو الحروب. ويرى الجمهوريون أن هذا المسار المالي غير مستدام ويهدد استقرار الدولار، بينما يصرّ الديموقراطيون على أن خفض الإنفاق بشكل حاد سيقوّض النمو ويزيد من مخاطر الركود.
كذلك تركزت الخلافات على الإنفاق الدفاعي والضرائب، إذ يطالب الجناح الجمهوري في مجلس النواب بزيادة ميزانية الدفاع إلى أكثر من 890 مليار دولار، بينما يسعى الديموقراطيون إلى خفضها جزئياً لتمويل برامج الرعاية الصحية والاجتماعية مثل "ميديكير" و"ميديكيد"، إضافة إلى حزم دعم الطاقة النظيفة والمساعدات الخارجية لأوكرانيا وتايوان.
وفي ظل غياب اتفاق على قانون ميزانية شامل، تعطلت عمليات الإنفاق الحكومي، ما أجبر عشرات الإدارات الفيدرالية على إيقاف نشاطها كلياً أو جزئياً، وتجميد رواتب أكثر من 800 ألف موظف حكومي، بينهم عناصر من أجهزة الأمن الداخلي ومحللون ماليون وعاملون في مراكز الخدمات العامة. كما توقف العديد من الخدمات الحيوية مثل الإحصاءات الاقتصادية، وإصدار التراخيص التجارية، ومعالجة طلبات التأشيرات والضرائب، مما أثّر مباشرة على الأنشطة الاقتصادية اليومية للأفراد والشركات.
وقد ناهز الدين العام الأميركي حوالى 38 تريليون دولار للمرة الأولى في التاريخ، أي ما يعادل أكثر من 121% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنحو 27 تريليون فقط قبل أربع سنوات.
ومع ارتفاع أكلاف الاقتراض نتيجة أسعار الفائدة المرتفعة، بلغت مدفوعات الفائدة على الدين الفيدرالي أكثر من تريليون دولار سنوياً، لتصبح ثالث أكبر بند إنفاق في الميزانية بعد الضمان الاجتماعي والدفاع. ويحذر الاقتصاديون من أن استمرار هذا المسار قد يؤدي إلى أزمة ديون طويلة الأمد تهدد التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، خصوصاً بعد قيام وكالة فيتش في آبأغسطس الماضي بخفض التصنيف الائتماني الأميركي من AAA إلى AA+ للمرة الأولى منذ أكثر من عقد، مشيرة إلى "تدهور الحوكمة المالية وتكرار المواجهات حول سقف الدين".
كل ذلك جعل الإغلاق الأخير ليس مجرد أزمة تمويل موقتة، بل مرآة لأزمة ثقة أعمق بقدرة النظام السياسي الأميركي على إدارة موارده المالية بفعالية. وبينما يُنظر إلى الاتفاق الأخير كخطوة لاحتواء الأزمة، إلا أن الخلافات الجوهرية على أولويات الإنفاق والضرائب لا تزال قائمة، ما يعني أن احتمال تكرار الأزمة في المستقبل يبقى قائماً ما لم يتم التوصل إلى إصلاح شامل للنظام المالي والميزاني الفيدرالي.
تداعيات على سوق العمل والاستثمار
لم يقتصر تأثير الإغلاق على القطاع العام فحسب، بل امتد إلى القطاع الخاص، خصوصاً في المجالات المرتبطة بالعقود الحكومية، والتكنولوجيا، والبنية التحتية، والدفاع.
فالتأخير في صرف المستحقات الحكومية تسبب باختناقات مالية لشركات المقاولات الصغيرة التي تعتمد على الإنفاق الفيدرالي، بينما أرجأ بعض الشركات الكبرى قرارات التوظيف والتوسع في ظل حالة الغموض المالي.
كذلك أدى غياب البيانات الاقتصادية الرسمية مثل مؤشرات التضخم والإنتاج الصناعي إلى إرباك المستثمرين والمحللين الذين يعتمدون عليها لتقدير اتجاهات السياسة النقدية، مما انعكس في شكل تقلبات حادة في الدولار والسندات والأسهم مع كل تطور سياسي أو تسريب من الكونغرس.
الأسواق المالية: تفاؤل حذر وسط ترقب تطورات السياسة المالية والنقدية
جاء رد فعل الأسواق العالمية على الاتفاق الأخير إيجابياً لكن مشوباً بالحذر، إذ رأى المستثمرون في التسوية الموقتة تخفيفاً للضغوط القصيرة الأجل من دون أن تغيّر الصورة الأكبر التي لاتزال تتسم بعدم اليقين المالي والسياسي.
فقد ارتفع مؤشر الدولار الأميركي ، مدعوماً بتراجع المخاوف من استمرار الإغلاق، بينما تراجعت أسعار الذهب موقتاً إلى ما دون 4,050 دولاراً للأونصة مع انحسار الطلب على أصول الملاذ الآمن.
وفي الوقت نفسه، واصلت العقود الآجلة الأميركية ارتفاعها في الجلسات الآسيوية والأوروبية المبكرة، ما يعكس شهية مخاطرة حذرة لكنها متزايدة.
رغم الاتفاق، تبقى الصورة العامة أكثر تعقيداً. فالمخاوف تتزايد من استمرار ارتفاع الدين العام الأميركي الذي تجاوز 34 تريليون دولار وسط غياب رؤية واضحة لضبط العجز والنفقات. كما ان التفاؤل الحالي موقت، لذلك ستظل الأسواق عرضة للتقلبات طالما لم يُقرّ تمويل طويل الأمد يبدد المخاوف من تكرار الأزمة مطلع العام المقبل.
كما أن تكرار هذه الأزمات يضعف جاذبية الدولار على المدى الطويل كعملة احتياط عالمية، خصوصاً مع اتجاه العديد من البنوك المركزية إلى تنويع احتياطاتها نحو الذهب أو اليوان الصيني وهو اتجاه يتسارع منذ سنوات.
(*) كبير محلّلي الأسواق المالية في FxPro، محاضر جامعي في لبنان وفرنسا.
نبض