التيك توكر هو من يصنع "نجومية" الكتّاب!

"المؤثّر" كلمة باتت من الأكثر استخداماً في حياتنا اليومية. هي ليست صفة، ولا وظيفة. إنها "شخصية" جديدة ولدت من رحم السوشيل ميديا. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ المؤثرين هم اليوم قوّة ناعمة في عالمنا الرقمي. هم اليوم قادرون على التأثير في اتجاهات المجتمع، أو بمعنى أصحّ في تشكيل ثقافته السائدة.
قد يبدو المصطلح حديثاً، لكنّه في الواقع يعود إلى ما قبل الإنترنت بعقود طويلة. "المؤثّرون" أو الـ Influencers هم تاريخياً "أقليّة" قادرة على التأثير بالأكثرية. هم نخبة تستمدّ تأثيرها من سلطةٍ أو شهرةٍ أو تفوّق ما.
الشاعرُ القديم مثلاً كان "أنفلونسر" زمانه. هو الإعلامي في أوقات الحرب والسلم. يطمع بتأثير كلماته أصحاب النفوذ، فيلجؤون إليه لترويج أنفسهم وأفكارهم.
أبيات المتنبي في مدح ذاته لا تُعبّر عن نرجسيةٍ دفينة بمقدار كشفها عن قوّة تأثيره في مجتمعه، وهذا ما نقرأه في كلماته الشهيرة: "الخيلُ والليلُ والبَيداءُ تعرِفُني/ والسّيفُ والرّمحُ والقرطاسُ وَالقَلَمُ/ أنا الذي نظر الأعمَى إلى أدَبي/ وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ/ أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ".
في مرحلة الإذاعة والتلفزيون، نرى قوّة التأثير عند الممثلين والمطربين. لعبوا أدواراً مهمة في تشكيل ذائقة الجمهور، وصاروا هدفاً لشركات الإعلان طمعاً بتأثيرهم في مجال الدعاية والتسويق.
مع ازدهار السينما الهوليوودية مثلاً، ارتدى معظم الشباب آنذاك T-Shirt بيضاء "نصّ كمّ" على غرار مارلون براندو، وجينزاً أزرق مثل جيمس دين، بينما سادت موضة الشعر الأشقر تأثّراً بماريلين مونرو.
نجوم الرياضة، نجوم الغناء، نجوم الإعلام... جميعهم صاروا حاضرين في المجالات التجارية والاقتصادية، نظراً إلى قوة تأثيرهم. ولعلّ كريستيانو رونالدو (لاعب كرة القدم) وتايلور سويفت (المغنية الأميركية) هما النموذجان الأوضح لمعنى "تأثير المشاهير". يعتبران اليوم قوة تجارية حقيقية. تخيّلوا أنّ هناك مصطلحاً اقتصادياً اسمه Swiftonomics (سويفتونوميكس)، وهو مشتق من اسم سويفت التي ترفع اقتصاد الدول التي تزورها خلال جولاتها العالمية.
في زمن مواقع التواصل، تغيرت المعادلة. التأثير لم يعد حكراً على صنّاع القرار وأصحاب الإنجازات، بل ظهرت فئة جديدة من المؤثرين: نجوم السوشيل ميديا.
تأثيرهم القويّ ناتج من متابعة الملايين لهم على صفحاتهم الخاصّة.
منصة إنستغرام عزّزت وجود هذه الفئة. الموجة الأولى من مؤثري السوشيل ميديا تميّزت ببعدٍ طبقيّ، إذا صحّ التعبير.
الأثرياء هم أول من افتتح الموجة. بدأ تأثيرهم بعنصر "الإبهار"، مستعرضين حياتهم المرفّهة عبر صورٍ وفيديوهات أقرب إلى المثالية.
هذا التفوّق المادي جعل منهم Influencers (مؤثرين). أما العامة من الناس فتحولوا إلى Followers (متابعين).
ولعلّ معظم الناس اندفعت نحو متابعتهم رغبة منهم في التلصص على حياة الأثرياء أو تعويضاً عن نقصهم المادي وافتقادهم للرفاهية.
مواقع التواصل غدت لاحقاً ساحةً لكلّ من يحلم في الشهرة. تلك المنصّات جعلت من الفارغين مؤثّرين، بينما غدا المثقف الحقيقيّ هامشياً. وهذا ما يدفعنا إلى السؤال عن التأثير الثقافيّ في عالمنا اليوم؟
لا شكّ في أن المثقفين تعاملوا بدايةً بحذرٍ شديد مع هذا العالم، وحملوا كلمة الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو شعاراً لهم: "مواقع التواصل الاجتماعي أعطت حق الكلام لفيالق من الحمقى".
هواة الثقافة هم اليوم أكثر تأثيراً من المثقفين الحقيقيين. ثمة صفحات يتابعها الملايين تنصح بكتابٍ ما فترتفع نسب مبيعه إلى أن ينفد من السوق.
هؤلاء مثلاً روّجوا لكتب التنمية الذاتية التي غدت النوع المفضّل عند القرّاء الشباب. التيك توكر مثلاً صار قادراً على صناعة نجومية الكتّاب. هذا ما رأيناه في حالات كثيرة كما في رواية السعودي أسامة المسلم، الذي تحول إلى ظاهرة تتدفّق خلفه الطوابير خلال حفلات توقيعه.
الكاتبة من أصل جزائري سارة ريفنز (1999) بدأت تنشر رواياتها عبر الإنترنت، ثم تحولت إلى الكاتبة الأكثر مبيعاً في فرنسا لسنة 2023، متجاوزةً ياسمينة خضرا الكاتب الفرنكوفوني الأشهر.
أما الكاتبة آن نابوليتانو فتحوّلت من كاتبة عادية إلى نجمة عالمية، والسبب فيديو على مواقع التواصل نشرته أوبرا وينفري، وهي تشيد بروايتها "مرحبا أيتها الجميلة". أوبرا وينفري إعلامية ومؤثرة وليست ناقدة أو مفكّرة. لكنّ انضمام أي كتاب إلى نادي القراء الخاص بها يعني نجاحه وانتشاره بين القراء حول العالم.
مثلما حدث مع "شوكولا دبي" الذي تحوّل- بتوصية من مؤثرة أجنبية- إلى منتج عالمي، قد يحدث ذلك مع أيّ كتاب ينصح به مؤثّر من هنا أو هناك.
معايير السوشيل ميديا هي واحدة في كلّ المجالات، في الثقافة كما في التجارة. الأرقام هي الأساس. فيديو واحد من مؤثر قد يخدم كتاباً أكثر من دراسةٍ يكتبها ناقد أو مفكر. هذا هو الواقع. أما التأثير الحقيقي والقدرة على البقاء، فجوابه يأتي مع الزمن.