"بديعة مصابني"... عروس المسارح في اليوبيل الذهبي على رحيلها

29-07-2024 | 22:12

"بديعة مصابني"... عروس المسارح في اليوبيل الذهبي على رحيلها

أصبحت "وديعة حبيب مصابني" المولودة في دمشق في 25 فبراير/شباط 1892، واحدة من أشهر رائدات فن الرقص الشرقي وأشهر من لعب بالصاجات
"بديعة مصابني"... عروس المسارح في اليوبيل الذهبي على رحيلها
بديعة مصابني
Smaller Bigger
 
تجوّل نجيب الريحاني بفرقته بين عدد كبير من الدول العربية، وذات ليلة بينما كانوا في رحلة في سوريا، وبعد الانتهاء من عرض شخصيته الأثيرة "كشكش بيك" –عمدة كفر البلاص- يتفاجأ بسيدة تدخل غرفته في المسرح لتهنئته. لم يتعرّف إليها الريحاني في البداية، فذكّرته بنفسها: "أنا اللي قابلتك في مصر وكتبت معاك كونتراتو ولا اشتغلتش!"، يقول الريحاني: "عرفت منها أن ما دفعها الى هجر مصر، بعد أن اتفقت على العمل في فرقتي، هي أنها عادت إلى الشام على عجل لأمور قضائية تتصل بعملها الفني هناك. وقد عرفت إذذاك أنها كانت تعمل بنجاح تام كراقصة، وأن اسمها ذاع في أنحاء سوريا ولبنان".
 
اتفق الطرفان من جديد وجدّدا العقد الذي يُلزم الريحاني بدفع (40) جنيهاً أجراً شهرياً لها بعد الانضمام لفرقته، نتجت من ذلك مجموعة من العروض المسرحية الشهيرة منها "الليالي الملاح"، "ريا وسكينة"، "الفلوس"، "أفوتك ليه"... 
وكانت جميعها بمثابة إجابة عن سؤالها للريحاني في لقائهما السابق حول مدى إمكانية نجاحها كممثلة، فردّ الريحاني: "لن يكون تجاحك مقتصراً على المسرح فقط، بل إنني أتنبأ لك بمستقبل تصلين فيه إلى مراتب النجوم من أقرب طريق وفي أسرع وقت"، كما ورد في مذكراته.
 
تحققت النبوءة بالفعل؛ وسرعان ما أصبحت "وديعة حبيب مصابني" المولودة في دمشق في 25 فبراير/شباط 1892، واحدة من أشهر رائدات فن الرقص الشرقي وأشهر من لعب بالصاجات، وبخلاف ما استحدثته على هذا الفن، مارست التمثيل والغناء وامتلكت أشهر صالة فنية في مصر عُرفت بـ "كازينو بديعة"، وهو الاسم الذي أطلقته الأسرة عليها بعد سنوات من ميلادها لشدّة جمالها.
 
مثل غالبية الحسناوات عانت "بديعة" كثيراً في حياتها جراء هذا الجمال؛ فكما مكّنها جمالها هذا من الاستئثار بقلوب المعجبين، كان هو الدافع الرئيس وراء حادثة اغتصاب وقعت لها وهي في عمر السابعة تقريباً. حدث ذلك بعد موت والدها المفاجئ ثم احتراق معمل الصابون الذي كان يمتلكه، ومنه اكتسبت العائلة لقبها "مصابني". 
 
 
 
وسرعان ما أصيبب أحد أشقائها بحالة اكتئاب جعلته يفرط في الشرب حتى أدمن على ذلك، وقد تعودت الصغيرة المرور عليه يومياً في الحانة التي يجلس فيها. وفي إحدى المرّات خدعها صاحب البار مُستدرجاً إياها إلى الداخل. تقول في مذكراتها: "ولم أجد في منزلي ما ألوذ به. بل انقضّت عليّ والدتي بدورها وأخذت تولول وتقطّع ثيابها، ولم تدرك أنها بعملها هذا جعلتني مضغة في الأفواه وأنا ما زلت طفلة صغيرة".
 
شكّلت هذه الحادثة وعي الصغيرة بدنياها الجديدة و"علّمت القلب أن يحترس"، كما يقول الشاعر أمل دنقل. ترتّب على ذلك أن انتقلت الأسرة إلى الأرجنتين، وهناك تفرّق شمل العائلة، وبعد فترة عادت الصغيرة بصحبة والدتها إلى بيروت، ومن ثم عاودا الكرّة بالسفر إلى مصر. وهكذا دواليك، حيث كُتب عليها الانتقال أينما كانت، وقد تعددت الأسباب. 
 
عاشت "بديعة" حياة طويلة مفعمة بالنجاح والشهرة والمال والفقر أيضاً، والكثير من التقلّبات المادية والحياتية والعاطفية، ما جعلها تفتقد الشعور بالاستقرار، والذي ربما لم يدق بابها غير مرّة واحدة وأخيرة، حين رحلت عن عالمنا قبل 50 عاماً في 23 يوليو/تموز 1974. 
 
 
 
امرأة بكل الوجوه
مثّلت فرقة "بديعة مصابني" محطة البداية في حياة عدد كبير من الفنانين، ومنهم: فريد الأطرش، محمد فوزي، محمود الشريف، محمد عبد المطلب، وحتى موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. 
لم تقتصر أسماء خريجي فرقة بديعة على الموسيقيين فقط، بل مثّلت في زمنها ما يشبه أكاديمية خاصة للفنون، تخرّجت منها دفعات مميزة جداً مثل: سامية جمال، تحية كاريوكا، اسماعيل ياسين، زينات صدقي، والقائمة تطول. أما عن بدايتها هي فقد كانت سريعة وخاطفة، استهلتها بفرقة جورج أبيض، وفيها تعلّمت العربية، ثم مع الشيخ أحمد الشامي وكانت فرقته جوّالة، وأخيراً مع الريحاني الذي تزوجته لسنوات قليلة وانفصلا في النهاية. يقول عنها الريحاني: "كانت بديعة فنانة بفطرتها، وكانت تهوى المسرح بطبيعتها، وكنت أحس ذلك منها، وأرى في قوامها وجمالها ما يجعل منها الممثلة التي أبتغيها".
 
أخلصت "بديعة" لفنها إلى أقصى درجة، ما جعلها تغلّب العقل على المشاعر في كثير من المواقف والأحداث عبر حياتها، لذلك نجدها تضع لأكاديميتها قواعد صارمة تحتّم عدم الاختلاط أو التبادل العاطفي بين رجال ونساء الفرقة؛ فقد وجدت أن نتيجة كل قصة حب تنتهي بالزواج، وبالتالي مكوث المرأة في البيت.
 
ذات مرّة عرفت أن مغنياً قام بخرق للقواعد مع إحدى الراقصات، فقامت بطردهما على الفور، ولم يكن ذلك المغني سوى الفنان محمد فوزي. ولم يمنعها ذلك من التخلّي عن تحفظاتها في بعض الأحيان، فحين علمت من فريد الأطرش بأن أخته أسمهان ستُقدم على الزواج –وكانا يعملان لديها- رافقته في البداية إلى منزلهم للتأكّد من أنها ليست خدعة منهما للذهاب إلى صالة أخرى، حيث كان التنافس محتدماً حينئذ بينها وبين الآخرين. تقول في مذكراتها: "وتأكّدت لي صحة أقوال فريد، فتنازلت عن عقدي مع أسمهان ودعيت لها بالتوفيق". 
 
 
 
حرصت "بديعة" أيضاً على تحديث وتطوير برنامجها اليومي خلال سنوات ازدهارها التي لقّبت فيها بـ "عروس المسارح السورية"، وكانت تواظب على رحلات سنوية لأوروبا لجلب الملابس من الفرق المسرحية بعد الانتهاء من عروضها، ما جعلها تواكب أحدث الموضوعات والتقاليع في عصرها. أما عن البروغرام (البرنامج) فقد تضمّن العديد من المنوعات ما بين مسرحيات فكاهية من فصل واحد، وعروض استعراضية ومنولوجات واسكتشات، بجانب الفواصل الغنائية والرقصات التي مزجت فيها بين الشرقي والإيقاعي، كما قامت بمزج آلات التخت الشرقي والآلات الغربية. وتكونت فرقة "بديعة" من جنسيات مختلفة عربية وأجنبية، وبلغ عدد العاملين لديها ما يقارب 500 فرد، ما بين فنانين وعمّال وخلافه، ما أجبرها على إدارة حاسمة، خصوصاً وقد ظلّت لسنوات عديدة مطلباً هاماً في الأفراح والمناسبات، حتى بلغ رصيدها من إحياء الأفراح ما يفوق (4000) كما صرّحت في حوار تلفزيوني سابق. 
 
 
محاولة أخير وهروب نهائي
بدأ نجم "بديعة" في الخفوت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وما زاد الطين بلّة المبلغ الضخم الذي كانت مطالبة لتسديده لمصلحة الضرائب، فلم تجد أمامها سوى استعادة طريقتها القديمة، الهروب، حين تشتد الأمور، فترحل إلى بيروت بما تبقّى لديها من مال، تاركة عرشاً هاماً في تاريخ الرقص الشرقي، لا شك أنها استحقت عمادته بجدارة، وكانت أول من حرّر الجسد من أطر "هزّ البطن" ومنحت الرقص شيئاً من الاحترام. حتى أن مفكراً مثل ادوارد سعيد، وصل إلى حدّ الافتتان بالفنانة تحية كاريوكا، فكتب عنها واحداً من أشهر مقالاته.
 
قبل أن تتفرّغ "بديعة" لمعايشة وحدتها النهائية، أقدمت على محاولة فاشلة للعودة إلى المسرح في لبنان، هي التي اختتمت مذكراتها فتقول: "لقد كُتب عليّ أن أقاسي من الوحدة حتى في سنوات شيخوختي، لكم سعيت إلى الفرار من شبحها، ولكم حاولت أن أُدخل في عالمي إنساناً أبتسم له في الصباح، وأتمنى له أحلاماً سعيدة في المساء". 
 
 
 
 

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/21/2025 6:00:00 AM
الحرب انتهت، لكنها جولة ضمن الصراع الأكبر، وعدم إيجاد حلول للصراع سيعني عودة الحرب!
المشرق-العربي 10/20/2025 10:41:00 PM
 سرية تُعرف باسم "إمبراطورية مصاصي الدماء" قتلت الطفلة هند رجب 
اقتصاد وأعمال 10/21/2025 12:47:00 PM
في خطوة من شأنها إعادة تشكيل القطاع المصرفي المتضرر في البلاد.
تحقيقات 10/21/2025 2:10:00 PM
ما هي أبرز التحديات التي تواجه عمليات البحث عن الجثث والمفقودين في غزة؟