رحيل الرّوائي حمدي أبو جليل... وصدمة الوسط الثّقافي المصري
لم يمهل الموتُ الروائي والقاص حمدي أبو جليل حتى ينتهي من روايةٍ جديدةٍ أعلن أكثر من مرّة أنه في صدد كتابتها، وأنه يرغب في تسميتها "ديك أمي". وفي محادثة هاتفية جمعتنا قبل نحو شهر، قال لي إن دار "الشروق" متوجسة من هذا العنوان، الذي يصر عليه.
كان ارتباط حمدي أبو جليل الذي غادرنا صباح اليوم الأحد عن عمر يناهز السابعة والخمسين، بوالدته وثيقاً جداً، ولطالما كانت محور بعض حوادث عدد من أعماله الأدبية، وأحدثها رواية "يدي الحجرية"، التي استغرق نحو عشر سنوات في كتابتها.
وهو كان يخطط لأن تكون روايته التالية عن هذه الأم التي نشأت في وسط بدوي أفُلت شمس عزه في إحدى قرى محافظة الفيوم (جنوب غرب مصر).
لم يمهل القدر حمدي أبو جليل ليستمتع بالطبعتين الجديدتين لروايتيه "لصوص متقاعدون"، والفاعل" اللتين أصدرتهما مؤخراً دار "الشروق"، ولا بالترجمة الإنكليزية لروايته "قيام وانهيار الصاد شين"، والتي كانت آخر ما أنجزه المترجم الراحل همفري ديفيز واختار لها عنواناً ترجمتُه العربية هي التالي: "الرجال الذين ابتلعوا الشمس".
خبر رحيل حمدي أبو جليل كان صادماً لقرائه وأصدقائه، وطبعاً لأهله، وظهر ذلك على صفحات الفايسبوك، بمجرد أن وضعت ابنته هالة على صفحتها الافتراضية ما يفيد بأنه مات فجأة بعدما عاد إلى بيته عقب حفل لتكريمه نظَّمته الهيئة العامة لقصور الثقافة، وهو كان أحد موظفيها، وسبق له أن تولى رئاسة تحرير مجلة "الثقافة الجديدة" التي تصدرها.
الرواية الأخيرة
على صفحة الفايسبوك الخاصة بها، كتبت الشاعرة والروائية الإماراتية المقيمة في مصر ميسون صقر: "كان بيننا وعد أن نحتفي بكتابك يا حمدي. كنت أظنه سيحمل لحدي كما حمل لحد والدتي. كان حمدي يختفي لفترات قد تطول أو تقصر، لكنه في نهاية الأمر يعود. في الفترة الماضية اشتكى لي عدم قدرته على الكتابة في روايته الأخيرة، واتفقنا أن يقرأ لي كل يوم مادة يكتبها في اليوم السابق، ويقرأها صباحاً لي في اليوم التالي، وظللنا نتواصل كل يوم يقرأ ما كتبه ونتناقش ثم يغلق الهاتف حتى انتهى من مسودة الرواية ثم جاء لزيارتي ليهديني كراسة المسودة الأولى فقلت له طيب، ولما أموت أنا قبلك تعالَ وخذها، فضحك وقال لا اطمني أنا حاموت قبلك. لم أعر جملته انتباهاً ولم أصدقه، وظل يبعث لي صور كتابه الذي سيعاد طباعته كل يوم فرحاً بإخراج الفنان الكبير أحمد اللباد له. وكان في الأيام الأخيرة يذهب كل فترة للفيوم (مسقط رأسه) ويبعث صوره مع حديقته التي يزرعها فرحاً، وكان راغباً في الاستقرار هناك. كانت أحلامه كبيرة لكن الزمن والوضع الحالي كانا قد قلَّصا أحلام الكثير من الكتّاب والمبدعين. اليوم تفاجأت بوفاة صديقي العزيز فجأة دون أي دلائل على تعبه. رحمك الله يا صديقي وأخي حمدي أبو جليل الصديق العزيز، فقدُك مؤلم ومحزن".
وحمدي أبو جليل الذي كان دائماً هو بطل رواياته وقصصه القصيرة هو أحد "أبطال" واقعة نشر رواية الكاتب السوري الراحل حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر"، بما أنه كان مدير تحرير سلسلة "آفاق الكتابة" التي أصدرتها في طبعة مصرية شعبية، ما ترتَّب عليه تنظيم تظاهرات عارمة في ساحة جامعة الأزهر في القاهرة للمطالبة بمصادرتها ومحاكمة كاتبها والمسؤولين عن نشرها في مصر، بدعوى أنها تنطوي على تجاوزات تنال من الدين.

مقالات وفيديوهات
وربما كان ذلك من الأسباب التي دفعت حمدي أبو جليل في ما بعد إلى إنجاز كتابه "نحن ضحايا عك: رواية أخرى في التاريخ الإسلامي" (ميريت – 2017)، كما كان يكتب مقالات في جريدة "السفير" البيروتية والاتحاد الإماراتية و"المقال" القاهرة، وغيرها، ويظهر في فيديوهات، يعيد من خلالها النظر في كثير من المسلمات الدينية، ما ترتب عليه أيضاً تواصل هجوم السلفيين عليه.
وكان أبو جليل يعتبر نفسه تلميذاً نجيباً لثلاثة من أبرز كتاب جيل الستينات هم إبراهيم أصلان ومحمد مستجاب وخيري شلبي، وكتب، إضافة الى أربع روايات، ثلاث مجموعات قصصية هي "أسراب النمل"، و"أشياء مطوية بعناية فائقة"، و"طي الخيام".
وفاز أبو جليل، أحد أبرز كتاب جيل التسعينات في مصر، بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة، عن روايته "الفاعل"، ولا يزال لكلمته خلال حفلة تسلم الجائزة صداها الكبير، بحيث قال فيها إنه سعيد بالفوز على رغم أن سبيله في الكتابة يخالف سبيل صاحب "أولاد حارتنا"، بل يناقضه، وقد وصف كتابته تلك بأنها كتابة الضعف والعجز.
كان حمدي أبو جليل الذي لم يحصل على تعليم جامعي يؤمن بأن الكتابة الأدبية ينبغي أن تنطلق دائماً من ذات كاتبها وتتمحور حولها، ومن ثم فإن آباءه المباشرين كانوا ينتمون إلى الجيل الذي أتى بعد جيل نجيب محفوظ. كما أنه استفاد في أعماله الأدبية من العوالم التي عرفها عن قرب خلال عمله لسنوات عديدة في مجال التشييد والبناء والذي تناوله في رواية "الفاعل" التي ترجمها روبن موجر إلى الإنكليزية تحت عنوان "كلب بلا ذيل" A Dog with no Tail، وصدرت الترجمة عن قسم النشر بالجامعة الأميركية في القاهرة سنة 2015.

شخصيّة روائية
ومن أهم ما نجح حمدي أبو جليل في تحقيقه خلال مشواره مع الكتابة الأدبية، والذي بدأ في عام 1997 بصدور مجموعته القصصية "أسراب النمل"، وسبقها عام 1996 كتاب "أحلى عشر قصص"، الذي تضمن قصصاً لعدد من الكتاب الشباب في ذلك الوقت بتقديم الكاتب الراحل فتحي غانم، هو تحويل ذاته الواقعية إلى شخصية روائية. وقد بلغ ذروة جديدة في هذا الصدد في روايته "يدي الحجرية" التي أنهاها بوعد مفاده التمرد على ما هو فيه ومواصلة السعي نحو الإمساك بالشمس!
وعندما سألتُه عن السبب الذي يدفعه إلى تحويل ذاته إلى شخصية أدبية، قال: "ظهور الكاتب باسمه وشحمه ولحمه في العمل الروائي، الأدق وقوع الكاتب باسمه وشحمه ولحمه على العمل الروائي، هو ما أقترحه على الرواية المصرية. الروائي المصري والواقع المصري والشعب المصري في أمسّ الحاجة الآن ليعبر الروائي داخل الرواية عن نفسه وأدق تفاصيل حياته، كل رواية اتعملت رواية، أقصد كل الأشكال الروائية تم التعبير عنها روائياً؛ من الواقع للتاريخ للخيال العلمي؛ ولأي "شقلباظ" شكلي، ولم يعد أمام الروائي إلا نفسه وتجربته في الحياة"! وأضاف: "طبعاً هذا الموضوع ليس سهلاً ويحتاج إلى تمرين وتدريب ومعركة دامية مع النفس، ولا بد أن تتساقط كل الرغبات والأماني والضغائن، الضغاااااااائن، أكاد أصرخ وأنا أقول الضغائن حتى يصل الإنسان إلى نفسه وحقيقته الصافية". واستطرد: "الموضوع ليس اعترافات محمد شكري في "الخبز الحافي"، على أهميتها وريادتها، وليس انتقادات إيميل حبيبي في "المتشائل" على أهميتها وريادتها، ولكنه محاولة للوصول للكاراكتر الكامن في كل إنسان".

الذاتي والموضوعي
وفي حقيقة الأمر لم يتوقف أبو جليل المولود في عام 1967 أبداً عن التمرد، والخروج على المألوف إبداعياً وواقعياً بقدرٍ يفوق عادةً ما يمكن أن تسمح به الأطر الفكرية التي تحكم الإنسانية شرقاً وغرباً. وبالطبع فإن له في هذا الاتجاه آباءًً روحيين، منهم مثلاً محمد شكري، لكنه يتميز عن سابقين ومجايلين ولاحقين في ربطه الذاتي بالموضوعي بشجاعة حقيقية، وبتجديده المتواصل في فنون السرد من عمل إلى آخر وإفلاته في الوقت ذاته من الوقوع في شرك تكرار نفسه.
أصدر حمدي أبو جليل روايته الأولى "لصوص متقاعدون" في عام 2002، ومن ثم روايته "الفاعل" في عام 2008 لتفوز في العام التالي بجائزة نجيب محفوظ.
وفي بداية عام 2022، صدرت هاتان الروايتان في طبعتين جديدتين عن دار الشروق، ليواكب ذلك إنجاز هنري ديفيز ترجمة رواية "قيام وانهيار الصاد شين" إلى الإنكليزية بعنوان "الرجال الذين ابتلعوا الشمس".
ولحمدي أبو جليل أيضاً سيرة ذاتية بعنوان "الأيام العظيمة البلهاء: طرف من خبر الدناصوري"، وفيها يركز على الصداقة القوية التي ربطته بأحد أبرز شعراء جيله وهو أسامة الدناصوري. وله أيضاً كتاب "القاهرة حوامع وحكايات"، وكتاب "فرسان زمان" ويتضمن قصصاً تاريخية للأطفال.
كتابة حمدي أبو جليل عموماً كانت تبدو أقرب إلى الحكي الشعبي، فهل لهذا علاقة بطبيعة البيئة البدوية الحاضرة دائماً في إبداعه؟ أذكر أنه أجابني عن هذا السؤال بقوله: "أنا دائماً أبحث عن لغه تشبه الكلام، وهذا تحديداً ما يطيل وقت كتابة أعمالي، رواية "الصاد شين" كتبتها في عشر سنوات، تجربة حاضرة كاملة والشخصيات أكاد ألمسها، وما حدث أحفظه بالموقف واللفتة من أول الرواية لآخرها. ماذا أعمل في العشر سنوات؟ أبحث عن النبرة؛ عن اللغة الأشبه بلغة الكلام. ليست العامية وإن كنتُ أحب الكتابة بالعامية. ولكن أقصد سهولة الكلام وخفّته ودقته وقدرته على الإقناع. وربما يرجع ذلك إلى أنني ابن الثقافة البدوية وهي ثقافة الشفاهة، ثقافة الكلام".
نبض