ثقافة
18-04-2024 | 08:34
ناهد السيد تواجه مرض الذئبة الحمراء... أدبياً
في كتابها "لالوبا" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، تخوض الشاعرة والكاتبة المصرية ناهد السيد رحلة "كائن لا تحتمل شفافيته" كما تصف، مستدعية حكم كونديرا على أبطال روايته ولكن بتحريف بسيط.

الغلاف
يقولون عنها كتابة للحياة وفي موضع آخر هي كتابة ضدّ الموت، إنها الكتابة من منطقة ذاتية مختلفة؛ فببساطة لم تعد تفاصيل الحياة اليومية هي ما تشغل المرء بل أضحت الحياة نفسها تقف على محك المواجهة المستمرة.
في كتابها "لالوبا" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، تخوض الشاعرة والكاتبة المصرية ناهد السيد رحلة "كائن لا تحتمل شفافيته" كما تصف، مستدعية حكم كونديرا على أبطال روايته ولكن بتحريف بسيط.
الخفة هنا فاقت الحد إلى درجة الشفافية، وهو ما يذكّرنا بعنوان آخر بديع ودال "يوميات امرأة مشعة"، آخر إصدارات الراحلة نعمات البحيري، الذي تناولت فيه تجربتها مع مرض السرطان.
تُصنّف ناهد كتابها على أنه سيرة روائية، متخذة من رحلة معاناتها مع مرض "الذئبة الحمراء" محطات مهمّة ومتوالية لرصد الذات وقراءة الحياة والموت من قرب وبحيادية مطلقة، بالإضافة إلى ما يشبه المراجعة لأقرب العلاقات البشرية أو الأسرية؛ فهناك كائنات معطاءة وأخرى مستهلكة تتعامل بما يشبه التواطؤ الجمعي للاستمرار في الحياة.
ونجد أن وصفها الكتاب بالسيرة الروائية يفتح أفقاً للتخييل والدراما وربما تجميل الأشياء أو تهذيبها في بعض الأحيان، تقول: "هذا ما حدث معي بالفعل، ولست سوى ناقلة للأحداث مع بعض تحابيش لغوية واستعراض بريء لمعرفتي بمواضع الكلام".

البحث عن دراما
يُعتبر مرض الذئبة من الأمراض المتفرّدة؛ حتى أنه لا توجد حالتان متشابهتان في هذا المرض، وهو من الأمراض الماكرة التي تخمد داخل الجسم لسنوات ثم تظهر فجأة، وكثيراً ما ينتشر المرض بين النساء، وهو ما يمثل تفرّداً للذات المطروحة واختصاص جنسها -من منظور جندري- بابتلاء المرض، بالإضافة إلى الإثارة في التعامل مع مرض ماكر يحتاج إلى ذكاء وخداع في أرض المعركة.
مجموعة من المعطيات الطبية البحتة نجد أن الكاتبة قامت بتطويعها داخل السرد، وهو ما أكسب النص درامية في الحكي وانحرف به عن مسار البوح الغنائي، خصوصاً مع ندرة الأحداث والمواقف والشخصيات أيضاً.
تبدأ الكاتبة رحلتها في صورة ديالوغ "رحلة وسط الغيوم" يجري بين الذاكرة والشوق نستمع إليه خلال صعود روحها..، "بعد موتي بساعة.. فجأة تذكرت ما تركته خلفي. يا ويلي..! يا ليتني فقدت ذاكرتي بالأسفل".
قبل ذلك ثمة مقدمة قصيرة في صورة مناجاة وبعد رحلة الغيوم تلك نتابع عبر خمسة مشاهد كاريكاتورية روح الفقيدة وهي تنتقل عبر السماوات تحت عنوان "ثقب في السماء": "معقولة.. لم يفتقدني أحد!، صورتي يتناولها الأصدقاء على صفحات التواصل الاجتماعي، وقطع البطيخ الملطّخ بابتسامات وقهقهات وسخرية.. إلخ"، مشهد ربما يذكّرك بالفيلم المصري "بابا أمين 1950" قصة وإخراج يوسف شاهين.
تنطلق الرحلة بـ "بسم الله نبدأ"، وهو مدخل سوريالي رهيف يخلق بوابة زمكانية للتأرجح بين الواقع والخيال: "ناولني ملاك الكتابة الرابض على كتفي اليمنى قلماً ودفتراً كثيف الأوراق، وبعد مفاوضات مع نظيره الراقد على الكتف اليسرى، أقنعه أن يمنحني فرصة، قائلاً: اتركها.. لعلّ أوانها لم يجئ بعد! ونحمل وزرها ونعصى الله مع هذا الشوق القابض على رقبتها".
وربما نلمح هنا تماساً آخر مع رواية "نائب عزرائيل" ليوسف السباعي، بحيث تُخلق دراما الموقف من خلال خطأ ما تمّ دون قصد، يقول السباعي: "هذا عجيب.. هذا شيء لم يحدث لنا قط.. وأخشى أن يكون قد التبس الأمر عليهم.. فأحضروك إلى هنا خطأ"..
تسير بقية الفصول في الكتاب بعد ذلك بشكل عشوائي وبلا ترتيب موضوعي، بعدما قامت الكاتبة بتقسيم رحلتها إلى ثلاثة مستويات، كأنّها تصنع نموذجاً مصغّراً من كوميديا دانتي ومراحل الدراما الثلاث، ونجد أنّ غالبية الفصول القادمة كانت بمثابة شهادات دفوع متوالية، لا يربط بينها سوى الراوي. فهي مرّة تتحدث عن الكراسي الموسيقية، ومرة عن الإسراء والمعراج والقتل الرحيم، ثم تقوم بوضع وحدة قياس للوجع لا تخضع لـ "عدد الساعات المتعارف عليها في اليوم البشري الذي يقيس به الإنسان الوقت، ولكن طولها يُحسب بأوجاعها"، رغم ذلك فهي متصالحة مع كل شيء حتى في لحظات التبرّم والجزع ما دمت في "حضرة الألم، دعه يمرّ بسلام".

مرض مركون أعلى الرف
لا تتعامل ناهد السيد مع المرض ببكائية، ومن ثم فهي لا ترغب في إثارة الشفقة، وربما هي سمة مشتركة مع غالبية الكتب والأعمال من النوع نفسه، كما تفرد له مساحات لحديث أقرب الى التوثيق، لا يخلو من السخرية في كثير من الأحيان: "ورغم تتبع مسارات المرض إلّا أنّهم احتاروا في إيجاد علاج له، ثم توقفت الدراسات، وأصبح مرضاً مركوناً على رف المسلمات المرضية". في موضع آخر نجدها تدلل تلك الذئبة المفترسة كما تناديها بـ "ذئبتي"، ونلاحظ أن الكاتبة لم تكف عن مشاغبة تلك الذئبة كلما سمحت الظروف، الأكثر من ذلك أنها أطلقت عليها اسماً مختصراً للتدليل "لوكا"..، "صعدت في السموات مع لوكا روح تائهة.. ماذا.. هل سلمتني لوكا أخيراً للموت".
يتكرّر تقديم الذئبة في صورة شبحية تستدعي العديد من شخصيات الرعب التاريخية، "بعد أن طحنت أعضائي.. هرست عظامي كالساحرة العجوز، ومضغت كليتي، وغسلت رئتي بالماء ونفخت قلبي، شربت دمي وسلخت جلدي، أخذت الاكسجين من جسمي، فرحت في غيبوبة الموت".
أما عن الموت نفسه، فنلاحظ ظهوره في صورة طفولية: "لا أعرف كم مرّة أخطأني الموت ثلاثاً أو أربعاً، أم عشرين... كل من مرضوا حولي التهمهم، وراح ينظّف أسنانه بعدهم بخيوط الحرير"، إنّها نفس الصورة القديمة في مخيلتنا حين كنا صغاراً نستمع لحكايات الوحوش وأمنا الغولة. وتؤكّد الكاتبة على مرحلة الطفولة باستدعاء طريقة تنظيف الأسنان بخيوط الحرير، وهي عادة كثيراً ما كنا نشاهدها قديماً من الأجداد وكبار السن، وبمنطق تنافس الأطفال في المدارس تسخر من الموت في نهاية الجملة، "لماذا يخطئني إذاً؟ إذا لم يكن فاشلاً في التصويب؟".
ولا تنقطع صورة الطفولة أو استدعائها عند مشهد معيّن أو فصل بذاته؛ بل تنساب عبر فصول الكتاب القصيرة، إما بالظهور صراحة أو من خلال ما يقبع بين السطور، في دلالة ربما تكون تمّت عبر لاوعي الذات المطروحة، والتي بدورها تدافع عن طفولتها المتمثلة الآن في صورة حياتها بكاملها، فهي حتى وإن صارت امرأة بالغة لا تزال طفلة في عمر التجربة البشرية.

انتبه عزيزي القارئ
تعمل ناهد السيد رئيسة قسم مناوب في جريدة "الأهرام" المصرية، تخرّجت من كلية الآداب وحصلت على عدد من الجوائز في الشعر والصحافة. صدر لها حتى الآن عدد من المجموعات الشعرية بالعامية المصرية من بينها "أنثى. كعب عالي. بيكا" بالإضافة إلى مجموعة من كتب الأطفال تنوعت بين القصة والرواية.
استخدمت "ناهد" في "لالوبا" أكثر من مستوى في الخطاب، فهناك مونولوغات موجّهة للنفس وأخرى للأسرة مجتمعة ثم فرادى، بجانب ذلك نجد مساحة لا بأس بها وجّهت للمجتمع والدولة والكتابة والشعر في أحيان كثيرة.
تقدّم الشاعرة هنا ما يمكن تسميته بالبولوفونية العكسية؛ حيث تعدد الأصوات يأتي من تعددية الخطابات الموجّهة، أي بتعدد المتلقّي وليس العكس.
من أميز الأصوات المقدّمة في الكتاب كان مونولوغها المتقطع/ المستمر مع القارئ، وهو خط سردي رهيف يتكرّر من حين لآخر وبمستويات درامية مختلفة، بداية من مقدمة الكتاب "عزيزي القارئ"، هكذا تبدأ معه في روي مأساتها مع تجربة المرض، ثم تزيد على ذلك وتستقطبه لجانبها..، "أما جائزتي الثانية، فهي اهتمامك أنت عزيزي القارئ"...، وهكذا.
تستمر ناهد خلال الكتاب في مخاطبة ذلك القارئ الذي مرّت عليه عقود لم يستمع لمثل هذه المخاطبات من الكتاب، وتزيد على ذلك بمكاشفة لا تنقطع مع ذلك القارئ..، "أردت اصطيادك كما اصطادني الصمت"، ثم تقدّم له طعماً للاستمرار في القراءة ووعداً ربما لم يخطر على البال..، "في نهاية سردي أعدك أنك ستعشق الابتلاء بل ستتمناه، وتبحث عنه بدلاً من أن يبحث هو عنك". ولا تكتفي بذلك بل تستدعي منهج الأسطورة وتخلعه على الحكاية، التي تتحول إلى نبوءة ورسالة موجّهة لصاحب النصيب..، "ستقودك الأقدار إليه كما قادتك إلى كتابي".
هنا ليس أمام المتلقّي سوى التورط في الحكاية، وحين تشعر الكاتبة بذلك تبدأ في اللعب معه والتحول ربما إلى ما يُشبه الذئبة نفسها أو العنقاء..، "يا لفظاظتك أيها القارئ، تريد أن آتيك من الآخر! أنت هنا كي تعيش مع قصتي لحظة بلحظة، لن أقدّمها لك جاهزة.. أريد اندهاشك الذي أتغذى عليه ويرضي غروري، أريد أن أترك أثراً في صدرك ينبهك لحياتك القادمة". قديماً قال أحد مخرجي السينما "ليس أمامنا سوى ساعتين لتغيير حياة الأفراد"، ويقصد بذلك سحر الفن السينمائي وقوته في إعادة طرح الأسئلة والأجوبة على حدّ سواء. من منظور شبيه خاضت "ناهد السيد" رحلتها عبر ما يزيد عن مائة صفحة من القطع الصغير، وعلى طريقة نهايات الأفلام الكلاسيكية –بالحكمة والفكاهة- تنهي كتابها: "عزيزي القارئ... أتمنى أن ترى نعمك نعيماً، كما أرجو ألّا تطالبني باسترداد سعر الكتاب".
الأكثر قراءة
المشرق-العربي
10/21/2025 6:00:00 AM
الحرب انتهت، لكنها جولة ضمن الصراع الأكبر، وعدم إيجاد حلول للصراع سيعني عودة الحرب!
المشرق-العربي
10/20/2025 10:41:00 PM
سرية تُعرف باسم "إمبراطورية مصاصي الدماء" قتلت الطفلة هند رجب
اقتصاد وأعمال
10/21/2025 12:47:00 PM
في خطوة من شأنها إعادة تشكيل القطاع المصرفي المتضرر في البلاد.
تحقيقات
10/21/2025 2:10:00 PM
ما هي أبرز التحديات التي تواجه عمليات البحث عن الجثث والمفقودين في غزة؟