"النهار" تُحاور الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي... ريادةٌ فكريةٌ إنسانيةٌ وضعت الشارقة في قلب العالم

ثقافة 28-11-2025 | 09:20

"النهار" تُحاور الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي... ريادةٌ فكريةٌ إنسانيةٌ وضعت الشارقة في قلب العالم

"ازرع أثراً لا يُقاس بزمنك، بل يُقاس بما يوقظه من وعي في الآخرين"
"النهار" تُحاور الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي... ريادةٌ فكريةٌ إنسانيةٌ وضعت الشارقة في قلب العالم
سمو الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي. (مكتب الشارقة الإعلامي)
Smaller Bigger

ثمّة شخصيات لا تُقاس أدوارها بعدد المناصب أو كثافة الإنجاز، إنّما بقدرتها على إعادة تشكيل معنى الحضور الإنساني في العالم. شخصياتٌ تقطع ميادين الثقافة كاختراق الضوء للعتمة: بسكونٍ أنيقٍ، وبقوّة عصيّة على التجاهل. تقف الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي بوصفها واحداً من الأصوات النادرة التي لا تُشبه سوى ذاتها؛ امرأةٌ من حلمٍ وحكمة، صاغت حضورها من إرث يمتدّ عميقاً في تاريخ الشارقة، ومن رؤيةٍ حملتها إلى ساحات العالم.

هي قيادية رائدة في العمل الخيري والإنساني، كاتبة، ناشرة، ووريثة مدرسةٍ فكريةٍ أسّسها الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، في كنفها نشأت فكرة الالتزام الثقافي لديها كقدرٍ وكرسالةٍ ممتدة. تحمل الشيخة بدور القاسمي شهادة البكالوريوس مع مرتبة الشرف من جامعة كامبريدج، والماجستير في الأنثروبولوجيا الطبية من كلية لندن الجامعية. إنها شخصية بارزة في مجال صون التراث الثقافي والارتقاء بالفنون، رئيسة هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير (شروق)، ورئيسة مجلس إدارة "هيئة الشارقة للكتاب".

واليوم، ونحن نفتح هذا الحوار معها، نسألها عن الروح التي أعادت تعريف دور الثقافة في المنطقة؛ عن تلك الرؤية التي جعلت من الشارقة والإمارات العربية المتحدة نموذجاً دولياً؛ عن المرأة التي تحمل إرث الوالد الحاكم وتبلغ به آفاقاً لامتناهية. نسألها، لتروي، ولتضيء، ولتضيف فصلاً جديداً إلى قصةٍ مُلهمةٍ.

المحور الأول: البدايات والرؤية

• تحملين تجربة استثنائية جمعت بين الثقافة والقيادة والعمل الإنساني؛ ما اللحظة المفصلية التي صاغت بدايات هذه الرؤية في داخلكِ؟
- لطالما كانت نشأتي في إمارة الشارقة، وفي كنف والدي صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، التربة الخصبة التي تبلور فيها إدراكي المبكر لمعنى الالتزام الثقافي والإنساني. ليست هناك لحظة مفصلية واحدة بقدر ما هو تراكم نوعي شكّل الوعي وثبّت القيم. فالثقافة والتنمية لم تكونا مجرد مفاهيم متداولة في أسرتنا، بل ممارسة يومية تُترجم إلى مؤسسات وسياسات ومبادرات، جوهرها خدمة الإنسان وتطويره. هذا الإدراك تحوّل إلى مشروع ملموس حين أسّست "مجموعة كلمات" عام 2007، حيث أصبح الشغف بالمعرفة وسيلة لبناء وعي الطفولة العربية، بلغة معاصرة ترسّخ الهوية وتزرع القيم وتغرس الانتماء لإرثنا منذ البدايات.

البداية بالنشر لم تكن سوى خطوة أولى في مسار أوسع. فسرعان ما اتسعت الرؤية لتشمل تمكين صناع التغيير أنفسهم، انطلاقاً من قناعة بأن الكتاب هو أول استثمار في العقل، وأن ريادة الأعمال تمثل استثماراً في القدرة على الفعل والتأثير. لذلك، جاء تأسيس "مركز الشارقة لريادة الأعمال" (شراع) الذي تجاوز مفهوم التمويل التقليدي ليؤسّس منظومة شاملة تربط المعرفة بالابتكار، والقيمة الثقافية بالجدوى الاقتصادية. وقد أثمرت هذه الرؤية في إطلاق مئات الشركات الناشئة، أكثر من نصفها تقودها نساء، ما يعكس كيف يسبق التمكين الثقافي التمكين الاقتصادي ويغذّيه. واليوم، نفخر بأن نسبة الشركات التي تقودها نساء في "شراع" تبلغ 51 في المئة من إجمالي المشاريع المحتضنة، وهي نسبة تتجاوز المعدلات العالمية وتؤكد أن الشارقة لا تكتفي بدعم المرأة فقط، بل تمكّنها من قيادة التغيير.

 

إلى جانب الوالد الحاكم سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي. (مكتب الشارقة الإعلامي)
إلى جانب الوالد الحاكم سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي. (مكتب الشارقة الإعلامي)

 

• حين تنظرين إلى رحلتكِ اليوم، بين المسؤوليات الثقافية والدولية وما حققتيه للشارقة والعالم العربي، ما هي الفكرة الأولى التي تخطر ببالك؟
- الفكرة الأولى التي تحضرني هي أننا لا نزال في البدايات. لأن الرؤية التي نحملها أعمق من أن تُختصر في منجز أو جائزة. المشروع الثقافي الذي تعمل عليه الشارقة هو مشروع أجيال، يتطلب تراكماً واعياً ومتيناً. ما تحقق حتى اليوم هو ثمرة رؤية واضحة لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، الذي وضع الثقافة في صلب السياسات التنموية، وجعل من التعليم والمعرفة أساساً للاستثمار الحقيقي، ومن اقتصاد المعرفة أولوية. هذه الرؤية قادت الشارقة لتثبيت موقعها كجسر حضاري يربط القيم بالحداثة، ويمنح الثقافة العربية صوتاً على الساحة العالمية.

مسؤوليتنا اليوم هي تحويل هذا الإرث إلى إنجاز عالمي مستدام؛ وهو ما بدأ يظهر في توسع الحضور الثقافي العربي عالمياً، مثل افتتاح "المعهد الثقافي العربي" في ميلان، و"مركز الدراسات العربية" في جامعة كويمبرا بالبرتغال، كمراكز تُشرف عليها "هيئة الشارقة للكتاب"، وتُجسّد رؤيتنا في جعل الثقافة العربية حاضرة في قلب الأكاديميا العالمية. وهذا التوجه يشمل أيضاً صون الذاكرة الإنسانية حيث جاء تسجيل موقع "الفاية" الأثري على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، ليس بوصفه إنجازاً محلياً فحسب، بل كمساهمة في حفظ التاريخ المشترك، وإيماناً بأن لدينا الكثير لنرويه للعالم بلغة علمية وإنسانية.

لكن ما يُلهمني اليوم ليس ما تحقق، بل ما لم يتحقق بعد. لأننا لم نصل بعد إلى لحظة الاكتمال، ولم تُروَ القصة الثقافية العربية كما ينبغي. لا تزال أمامنا مساحات لم تُكتشف، وأدوار لم نؤدّها، وفرص حقيقية لننتقل بثقافتنا من موقع المتفرّج أو المستهلك إلى موقع الفاعل والمؤثر.

• في عالم متسارع مليء بالتحديات، ما الذي يدفعكِ للاستمرار في الإيمان بقوة الثقافة والمعرفة كأدوات للتغيير؟
- ما يدفعني هو إدراك حقيقة ثابتة عبر التاريخ: أن الثقافة ليست ترفاً، بل هي البنية التحتية للقوة والاستدامة والكرامة الإنسانية، خاصة في زمن المتغيرات المتسارعة. الإنسان ليس آلة. هو كائن يتغذى على المعنى، ويبحث عن الجمال، ويقاوم التحديات بالخيال. والتكنولوجيا قد توفر لنا أدوات الإنجاز، لكنها لا تشرح لنا لماذا علينا أن نحقق هذا العمل. وحدها الثقافة تفعل ذلك. الثقافة هي التي تمنح الإنسان القدرة على أن يسمو، وأن يعيد تعريف نفسه في كل أزمة.

رأيت بنفسي كيف يمكن لفكرة أو كتاب أو مبادرة ثقافية أن تحرّك مجتمعاً نحو الأفضل. ففي زمن يتزايد فيه التركيز على الإنجاز المادي، تصبح الثقافة حصناً للهوية، وملاذاً للروح، ومحرّكاً للتجدد. أؤمن أن الأدب يمنح الإنسان اللغة التي يحتاجها ليحلم ويصنع مستقبلاً مشرقاً. كما أن الثقافة ليست فقط أداة لبناء الذات، بل هي أداة للتمكين الاقتصادي والمعرفي. 

 

الثقافة ليست ترفاً، بل هي البنية التحتية للقوة والاستدامة والكرامة الإنسانية.

 

في الشارقة، نحرص على أن تكون الثقافة مكوّناً أساسياً في مختلف مجالات التنمية، فنربطها بالتعليم المتقدم كما في الجامعة الأميركية بالشارقة، حيث لا يقتصر دور الجامعة على تقديم المعرفة الأكاديمية، بل يشمل أيضاً ترسيخ القيم، وتعزيز التفكير النقدي، والهوية الثقافية. ونربط الثقافة كذلك بريادة الأعمال، كما في مركز "شراع"، لنضمن ألا يكون التقدم التقني مجرد هدف تقني أو اقتصادي، بل نابعًا من وعي قيمي عميق، يدفع روّاد الأعمال لتأسيس مشاريع تحمل رسالة وتُحدث فرقاً حقيقياً في المجتمع. هذا هو الاستثمار الحقيقي: حين تزود الثقافة الأجيال بقيم الإبداع والفضول والتميّز، وتُحوّل المعرفة إلى أثر مستدام.

وعندما أواجه تحديات في تنفيذ بعض المشاريع أو المبادرات، أسترجع تلك اللحظات التي أرى فيها عيون الأطفال تلمع بالفضول وهم يطالعون كتاباً في مهرجان الشارقة القرائي للطفل، أو مشهد الآلاف من الزوّار في معرض الشارقة الدولي للكتاب وهم يغادرون بحقائب مملوءة بالقصص والأفكار. عندها أتأكد أننا يجب أن نستمر، وأن نثابر كلٌّ من موقعه، فلابد لتلك الساعات التي يقضيها أطفالنا وشبابنا في القراءة والتعلّم، ستثمر جيلاً من المواطنين الفاعلين، يملكون وعياً، وشغفاً، وقدرة حقيقية على بناء مستقبل أكثر اتزاناً وإنسانية. هذه اللحظات هي وقود رؤيتنا، ودليلنا على أننا نسير في الاتجاه الصحيح.

المحور الثاني: الريادة والقيادة

• أنتِ من الشخصيات النادرة التي جمعت بين الفكر الثقافي والعمل القيادي، كيف توازنين بين هذين البعدين؟
- لا أرى الأمر من زاوية "التوازن" بين بعدين، بقدر ما أراه اندماجاً طبيعياً بين بُعدين يتكاملان: الفكر الثقافي والعمل القيادي. فالثقافة، في رؤيتي، ليست مجرد خلفية تزيّن القرار، بل هي البوصلة التي تمنحه الاتجاه والمعنى. هي التي تحدد الغاية من كل خطوة، وتضمن أن تبقى الكرامة الإنسانية في صميم السياسات. لذلك، لم يكن عملي في المجالات القيادية انفصالاً عن الثقافة، بل امتداداً لها. فحين نعمل على تأسيس بيئة تعليمية رائدة، أو دعم رواد الأعمال، أو إطلاق مشاريع تكنولوجية واقتصادية، أو حتى تطوير قطاعات حيوية كالسياحة الثقافية المستدامة، فإن السؤال الأساسي دائماً هو: ما القيمة المضافة لهذا المشروع للإنسان والمجتمع؟

القيادة التي أؤمن بها لا تكتفي بالنتائج، بل تهتم بالسياق، بالعدالة، بالاستدامة. وهي تبدأ من وضوح الرؤية وتنتهي ببناء منظومات مؤسسية قادرة على تحويل الفكرة إلى أثر ملموس. فالقرار السليم ليس قراراً إدارياً فقط، بل هو تعبير عن فهم عميق للسياق الثقافي والإنساني، وعن قدرة على تحفيز الطاقات من خلال بيئة تثق بالناس، وتمنحهم أدوات الفعل والتأثير.

• كثيرون يربطون القيادة بالسلطة؛ كيف تعرّفين القيادة بمعناها الأعمق؟
- القيادة بمعناها الأعمق هي أمانة ومسؤولية، وليست امتيازاً أو سلطة. الفرق شاسع؛ فالسلطة تهدف إلى السيطرة والتحكم، بينما الأمانة تهدف إلى الخدمة والتمكين. نحن نستلهم هذه المدرسة الفكرية من صميم تراثنا العربي والإسلامي، حيث يُعرَّف القائد بأنه راعٍ ومسؤول عن رعيته. هذا المفهوم يضع القيادة في سياق أخلاقي وإنساني عالٍ، حيث يُحاسَب القائد عن رفاهية ونمو وكرامة من يقودهم.

انطلاقاً من هذا المنطلق، أؤمن بأن جوهر القيادة يكمن في القدرة على تحفيز الآخرين، وبناء الثقة، وتمكينهم من الوصول إلى أقصى إمكاناتهم. فالقائد لا يقود وحده، بل يزرع في محيطه القدرة على القيادة، ويخلق من الفريق منظومة منتجة ومستقلة. ولهذا فإن القيادة بمفهومها الشامل تتطلب وعياً ذاتياً، ومهارات تواصل فعّالة، ومرونة فكرية، واستعداداً دائماً للتطور، إضافة إلى ذكاء عاطفي عميق وفهم إنساني للتنوع في الطاقات والدوافع. نحن نمارس هذا المفهوم عملياً في مختلف المؤسسات حيث لا نكتفي بإطلاق المبادرات، بل نبني أنظمة متكاملة تُمكّن الأفراد من اتخاذ القرار، وتحفزهم على الإبداع، وتؤهلهم لقيادة مستقبلهم بأنفسهم.

 

مكرّمة بأول لقب “أستاذ فخري“ تمنحه جامعة ليستر. (مكتب الشارقة الإعلامي)
مكرّمة بأول لقب “أستاذ فخري“ تمنحه جامعة ليستر. (مكتب الشارقة الإعلامي)

 

• هل ترين أنّ القيادة النسائية لها مقاربة مختلفة عن القيادة التقليدية الذكورية؟
- أعتقد أن القيادة الناجحة لا تعرف جنساً، فالكفاءة والجدارة هما المعيار، لكن لا يمكن إنكار أن القيادة النسائية أثبتت قدرتها الآن على إضافة قيمة حقيقية ومختلفة لإثراء بيئة العمل والمجتمع. هذه المقاربة ترتكز على عمق الخبرة الحياتية للمرأة ودورها الرئيسي في تكوين ورعاية نواة المجتمع، وتظهر بوضوح في ثلاثة جوانب أساسية:

الجانب الأول هو التركيز على بناء شبكات التعاون والقيادة الشمولية. فبدلاً من التركيز على هيكل السلطة الفردي والتحكم، تميل القيادة النسائية إلى بناء جسور وشبكات تعاون قوية داخل المؤسسة ومع الشركاء على حدٍ سواء، لضمان مشاركة الجميع في القيادة وصناعة القرار. وهذا الميزة في القيادة النسائية هي التي دفعتني لتأسيس منصة مثل "PublisHer"، التي لا تهدف إلى المنافسة بقدر ما تهدف إلى خلق مجتمع عالمي متوازن وشامل لقطاع النشر بالكامل، عبر توفير الأدوات والفرص للجميع. ينبع هذا من إيماننا بأن التقدم لا يتحقق بوجود عدد قليل من الأفراد في القمة، بل بخلق منظومة كاملة ترفع مستوى أداء الجميع وتشركهم في المسؤولية.
أما الجانب الثاني فهو تعميق البعد الإنساني والاجتماعي في عملية اتخاذ القرار. القيادة التي تحمل في طياتها التجارب المتعددة تكون أكثر وعياً بضرورة مراعاة التأثير الاجتماعي والأسري للقرارات المؤسسية. وهذا يظهر في قيادتنا للقطاعات التنموية، حيث نصر على أن يراعي الابتكار التقني كما في برامج التعليم العالي الأخلاقيات والقيم الإنسانية، وأن يكون التمكين الاقتصادي مصحوباً بالدعم والاحتواء لجميع الفئات.

وأخيراً، هناك الرؤية الاستراتيجية التي تركز على الاستدامة. فالقيادة النسائية غالباً ما تميل إلى إدارة المخاطر باستراتيجية طويلة الأجل، لأنها تستلهم من دور المرأة كـ"مهندسة للأجيال" في المنزل والمجتمع. هذه الرؤية تضمن أننا لا نسعى للإنجاز السريع، بل للتأسيس لبنى تحتية تخدم المستقبل. وهذه المقاربة هي التي تضمن أننا لا نكتفي بمواكبة التغيير، بل نقود عملية صياغته نحو مجتمع أكثر مرونة وازدهاراً.

المحور الثالث: دور الشارقة في الثقافة والعلم

• الشارقة عاصمة الثقافة العربية الدائمة، حاضنة للمعرفة والإبداع، وجسر بين التراث والحداثة؛ كيف تحافظون على هذا الزخم من دون أن يتحول إلى مجرّد شعار؟
- الشارقة اليوم تكتب، وتنشر، وتقرأ، وهذه حقائق تؤكدها كل إحصائية ومبادرة، إلى جانب الجوائز الإقليمية والدولية التي رسّخت حضور الإمارة في خارطة الثقافة العالمية. لكن سر الحفاظ على هذا الزخم لا يكمن فقط في حجم الفعاليات أو تنوع البرامج، بل في تحويلها إلى بنية تحتية حية، متجددة، قائمة على منظومة متكاملة من السياسات والمؤسسات. نحن نتعامل مع الثقافة باعتبارها مشروعاً تنموياً مستداماً، لا لحظة احتفالية عابرة. ولهذا نركز على محورين متكاملين. أولاً، تحويل الشغف بالمعرفة إلى اقتصاد مستدام. فقد أنشأنا "مدينة الشارقة للنشر"، أول منطقة حرة للنشر في العالم، لتكون بيئة متكاملة ومحفزة لصناعة الكتاب، تجمع بين التسهيلات الاستثمارية مثل الإعفاءات الضريبية والتملك الكامل، وبين الدعم الثقافي كبرامج الترجمة وتطوير المحتوى.

 

العدالة المعرفية هي أساس استدامة أي مشروع ثقافي.
  • سمو الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي.

 

عندما طُرحت فكرة إنشاء منطقة حرة مخصصة للنشر، واجهنا الكثير من التساؤلات والتشكيك حول جدواها الاقتصادية في ظل التحوّل الرقمي العالمي. لكننا آمنّا بأن الثقافة قادرة على أن تكون رافعة اقتصادية حقيقية، فعملنا على إعداد دراسات جدوى دقيقة، وأطلقنا برامج تجريبية أثبتت أن الاستثمار في البنية التحتية الثقافية يمكن أن يُنتج عوائد مستدامة. واليوم، تستضيف "مدينة الشارقة للنشر" أكثر من 16ألفاً و34 شركة من 168 دولة، وهو دليل حيّ على أن الرهان على الثقافة لم يكن فقط صائباً، بل استشرافياً.

ثانياً، نعمل على ترسيخ الثقافة كجزء لا يتجزأ من الحياة اليومية، بحيث تصبح القراءة ممارسة طبيعية تبدأ من البيت ولا تقتصر على المكتبة. مبادرات مثل "مكتبة في كل بيت"، التي وصلت إلى أكثر من 42 ألف أسرة، وحملة "اقرأ، أنت في الشارقة" الموجهة للأطفال واليافعين، تهدف إلى بناء علاقة مبكرة وعميقة مع الكتاب. كما أن فتح مكتبات الشارقة العامة في كل مناطق الإمارة للجميع، دون أي حواجز اجتماعية أو معرفية، يجعل من المعرفة حقاً مشتركاً لا امتيازاً نخبوياً.

وفي موازاة ذلك، تواصل "مؤسسة كلمات" جهودها الإنسانية لضمان وصول المعرفة إلى الفئات الأقل حظاً، كالأطفال المكفوفين أو من يعيشون في مناطق النزاع، إيماناً منّا أن التمكين الثقافي لا يكتمل إلا إذا كان شاملاً وعادلاً. العدالة المعرفية هي أساس استدامة أي مشروع ثقافي.

• كيف يمكن للثقافة أن تكون قوة ديبلوماسية مؤثرة بقدر ما تكون السياسة والاقتصاد؟
- الثقافة هي المساحة الوحيدة التي تسمح بتلاقي الأرواح والقلوب والعقول من كل مكان، حيث تجتمع على الجانب الإنساني والوجداني المشترك بين البشر. وفي هذا الإطار الدافئ، يكون الحوار هادئاً، يمتزج فيه فضول التعلّم بالاحترام المتبادل للاختلاف، مما يسهّل التأثير المتبادل وبناء روابط حقيقية. وهذا التفاعل البنَّاء لن تجده دائماً في المساحات السياسية والاقتصادية التي تحكمها لغة المصلحة الضيقة ومنطق الربح والخسارة. في الشارقة، تقوم استراتيجيتنا على تحويل هذه المساحات الوجدانية إلى بنية عمل ديبلوماسي متكاملة عبر مستويين رئيسيين.

المستوى الأول هو الأدب كوسيلة للحوار. ففي معرض الشارقة الدولي للكتاب، لا يقتصر الأمر على صفقات النشر ودعم الكتاب وتشجيع القراءة، بل هو مائدة حوار عالمية لتبادل القصص والهموم المشتركة. وعندما نستضيف ضيف شرف مثل كوريا الجنوبية والمملكة المغربية في النسخ السابقة واليونان هذه السنة، فإننا نفتح نافذة لجمهورنا على إرث حضاري وثقافة كاملة ونعطي فرصة للقاء والتبادل والتعلم. كما أن مشاركة الشارقة كـ"ضيف شرف" في محافل ثقافية دولية مختلفة تسمح بنقل إرثنا وقيمنا للعالم وبناء شراكات حقيقية، إذ أن الكلمة المكتوبة هي خير من يعبّر عن روح الأمة وقدرتها على التعايش.

المستوى الثاني هو الفنون كطريق للتفاهم خارج اللغة. لأن الوجدان لا يتحدث لغة واحدة، نعمل على خلق حوار عبر الفنون، وهنا يأتي دور مبادرات نوعية مثل "مهرجان تنوير" في صحراء مليحة، حيث جمع في نسخته الأولى فنانين وموسيقيين من شتى أنحاء العالم مثل سامي يوسف وظافر يوسف إلى كمال مسلم وفرقة "رحلات النور" في تجربة فريدة تمزج الموسيقى والفن بالتراث. وقد حضر هذا المهرجان جمهور غفير من مختلف الجنسيات والخلفيات الثقافية، ليتحول الفضاء الصحراوي إلى ساحة عالمية للمحبة والحوار الوجداني والتفاهم، مما يثبت أن للموسيقى والفن قدرة فائقة على وصل الناس ببعضهم البعض وتجاوز حواجز اللغة.

• ما الدور الذي يمكن أن تؤدّيه الشارقة كنموذج في إعادة تعريف العلاقة بين التراث والحداثة؟
- يرى أحد أهم رواد الفكر العربي المعاصر، محمد عابد الجابري، أن العلاقة بين التراث والحداثة ليست علاقة قطيعة، بل علاقة نقد مزدوج؛ فنَقَد التراث من جهة، ونقد الحداثة الغربية من جهة أخرى، بهدف الخروج من أسر أي منهما من دون الانقطاع الكامل عن جذورنا. نحن في إمارة الشارقة نؤمن بهذه الفلسفة ونعتقد أن الحداثة لا تعني القطيعة التامة مع التراث، كما لا تعني الاكتفاء بالاقتباس من التجارب الغربية أو الخارجية، بل تعني في جوهرها ممارسة مزدوجة تجمع بين جذورنا وطموحنا، وتعني الإيمان بضرورة الحركة إلى الأمام تماشياً مع حركة التاريخ.

نحن أيضاً لا نخاف من المستقبل أو التغيير لأن التغيير هو جزء من طبيعة وتكوين البشر. وبينما نطلق مبادرات لتأمين المستقبل وتحضيره، نعمل على أن يكون التراثُ هو بوصلة هذا التقدم وعموده الفقري. لتحقيق هذه الموازنة الدقيقة، تتخذ الشارقة خطوات عملية تجعل من التراث قوة دافعة للتنمية المعاصرة وليس مجرد متحف للماضي. على سبيل المثال، في المجال العمراني، يُعد مشروع "قلب الشارقة" خير دليل على هذه الرؤية. فبدلاً من هدم المنطقة التاريخية وإقامة ناطحات سحاب جديدة كلياً، تم التركيز على ترميم وإحياء المباني القديمة وتوظيفها لوظائف حديثة كمتاحف وفنادق وأسواق ثقافية، مما حافظ على النسيج الحضري الأصيل للمدينة ودمج التاريخ في الحياة اليومية المعاصرة. هذا يضمن أن يظل المكان مرجعاً للهوية وفي الوقت ذاته وجهة حيوية وسياحية حديثة.

 

بعض من إنجازات سمو الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي. (النهار)
بعض من إنجازات سمو الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي. (النهار)

 

• هل يمكن القول إنكم نجحتم في إبراز الشارقة بوصفها "علامة ثقافية" (Cultural Brand) على المستوى العالمي؟
- لقد أصبحت الشارقة حالة ثقافية فريدة، تتجاوز مفهوم المدينة التي تحتضن الفعاليات والمؤسسات، إلى كونها نموذجاً حياً لمدينة تبنى نهضتها وتنميتها على أساس متين من المعرفة والهوية. هذا التحول العميق مكّن الشارقة من إبراز نفسها كـ"علامة ثقافية" ذات ثقل عالمي، ليس من خلال الحملات الترويجية، بل عبر اعتراف المؤسسات الدولية المرموقة بالجهد المستدام والمتكامل للإمارة. إن التتويج المتوالي الذي حظيت به الشارقة هو خير دليل على هذا النجاح؛ بدءاً من اختيار منظمة اليونسكو لها "عاصمة للثقافة العربية" عام 1998، مروراً بـ"عاصمة الثقافة الإسلامية" عام 2014. هذه الألقاب رسخت مكانة الإمارة كجسر حضاري يوازن بين أصالته العربية والإسلامية وطموحه العالمي.

أما الإنجاز الأبرز، فكان تتويجها "العاصمة العالمية للكتاب لعام 2019" من قبل اليونسكو، لتكون أول مدينة خليجية تحصل على هذا اللقب الرفيع. هذا الاعتراف لم يأتِ من فراغ، بل هو تقدير لدور الشارقة الريادي في دعم صناعة النشر، والترجمة، وغرس ثقافة القراءة عبر مؤسساتها الكبرى وفعالياتها الضخمة، وفي مقدمتها معرض الشارقة الدولي للكتاب، الذي يعد من أكبر المعارض في العالم. إن التجسيد العملي والحيوي لهذه الحالة الثقافية التي رسّختها الشارقة يتجلى في المؤسسات والفعاليات التي تحمل الإمارة إلى المحافل الدولية. فالشارقة لا تكتفي باستقبال الثقافة، بل تُصدِّرها وتساهم في إثرائها عالمياً، عبر مبادرات مثل "جائزة اليونسكو-الشارقة للثقافة العربية" التي تُموَّل من الإمارة وتُمنح لشخصيات عالمية، مما يرسخ دورها كشريك فاعل في حوار الثقافات.

كما أنّ قدرة الإمارة على استقطاب كبار المبدعين والمفكرين من مختلف القارات من خلال فعاليات مثل بينالي الشارقة للفنون، يؤكد تحولها إلى مركز عالمي حيوي للإبداع والتبادل المعرفي. وفي تأكيد لهذا الالتزام الراسخ بتحويل الثقافة إلى بنية تحتية مستدامة، استثمرت "هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير" (شروق) 447 مليون درهم في خمسة مشاريع ثقافية بارزة تشمل "قلب الشارقة"، و"بيت الحكمة"، و"جزيرة النور"، و"مركز مرايا للفنون"، و"حديقة مليحة الوطنية"، ما يعكس التزام الإمارة بتطوير البنية التحتية الثقافية كأساس للتنمية المستدامة. هذه الإنجازات كلها تؤكد أن الشارقة قدّمت نموذجاً حضرياً يُبرهن أن العمق الثقافي هو المدخل الحقيقي والوحيد للريادة الدولية المستدامة.

• تولّيتِ منصب رئيسة الاتحاد الدولي للناشرين بين عامَي 2021 و2023، وأسّستِ "جمعية الناشرين الإماراتيين" وترأستِ مجلس إدارتها؛ كيف تنظرين إلى مستقبل صناعة النشر في العالم العربي في ظلّ التحولات الرقمية؟
- صناعة النشر العربية تقف اليوم عند مفترق طريق حقيقي. لقد تجاوزنا فعلياً مرحلة "التحوّل الرقمي"، وأصبحنا نعيش في صلب "الواقع الرقمي" الذي أعاد تشكيل سلوكيات القراءة، وتوقعات الجمهور، وطبيعة العلاقة مع المعرفة ذاتها. لم يعد التحول محصوراً في الوسيط، بل امتدّ ليشمل كامل منظومة الإنتاج المعرفي: من الذكاء الاصطناعي في التحرير والترجمة، إلى الكتب التفاعلية، وسلاسل القيمة الجديدة في النشر.

اليوم، لا يتنافس الناشرون في ما بينهم فحسب، بل يتنافسون مع صناعات بأكملها على انتباه الجمهور. وفي عالم مشبع بالمحتوى، حيث الإلهاء لا يبعد سوى نقرة، فإن مستقبل النشر يتوقف على قدرة القطاع على التحول الجذري، واحتضان الابتكار كفلسفة عمل، من خلال تبني نماذج مرنة، وبناء شراكات استراتيجية عابرة للقطاعات، وفتح المجال أمام أصوات وتجارب جديدة.

 

في حفل التخرج لفصل الربيع 2025 بالجامعة الأميركية في الشارقة. (مكتب الشارقة الإعلامي)
في حفل التخرج لفصل الربيع 2025 بالجامعة الأميركية في الشارقة. (مكتب الشارقة الإعلامي)

 

من خلال تجربتي في الاتحاد الدولي للناشرين، وعملي في "جمعية الناشرين الإماراتيين"، أؤمن بأن مستقبل النشر العربي يعتمد على أمرين أساسيين: أولاً، الانتقال من استهلاك المعرفة إلى إنتاجها؛ وثانياً، ترسيخ منظومة نشر عادلة ومحفّزة، تحترم حقوق المؤلف، وتدعم الابتكار، وتوفر بيئة تشريعية واقتصادية تجعل من النشر رافعة حقيقية للتنمية الثقافية، لا مجرد قطاع اقتصادي.

لكن التحدي لا يقتصر على أدوات النشر وآلياته. فالنشر، في جوهره، لم يكن يوماً مجرد مهنة، بل هو تعبير حضاري ومسؤولية إنسانية وتاريخية. المطلوب اليوم ليس فقط تسريع التحديث التقني، بل إعادة التفكير في الدور الثقافي والمعرفي للنشر: كيف ننتج محتوى يعكس تنوعنا البشري، ويدعم لغتنا الأم، ويوسّع دوائر الشمول والتمكين، بدلاً من أن يعيد إنتاج المركزية الثقافية القديمة؟

وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية والتعليمية التي ينبغي ألا تكتفي بلعب دور "المتلقي" للتكنولوجيا، بل أن تقود عملية بناء الإنسان القادر على القراءة النقدية، والإنتاج المعرفي، والابتكار اللغوي. فالنشر اليوم هو الجسر بين الماضي والمستقبل، بين الموروث والحداثة.

الناشر الأكثر نجاحاً في المرحلة المقبلة هو من يحقق التوازن بين الأصالة والتجديد، ويُدرك أن مستقبل الصناعة لا يكمن في مقاومة التغيير، بل في احتضانه بشجاعة ووعي. فالنشر في نهاية المطاف هو قصة الإنسان، ومستقبل النشر هو مستقبل قدرتنا على إيصال هذه القصة، بكل ثرائها وتنوعها، إلى الأجيال القادمة.

المحور الرابع: المرأة والإنسانية

• أنتِ رمزٌ لتمكين المرأة، وقد اختُرتِ ضمن قائمة أقوى 200 سيدة عربية في قطاع الأعمال العائلية؛ ما الذي ما زال ناقصاً في رحلة المرأة العربية اليوم؟
- لو كنتُ أُجيب عن هذا السؤال قبل عقد أو عقد ونصف عقد، لربما كنتُ سأبدأ بإبراز التحديات البنيوية التي كانت تعرقل دخول المرأة العربية إلى مجالات القرار والتأثير. لكن الواقع اليوم تغيّر. نحن نرى نساءً عربيات يتقدّمن الصفوف في القيادة الحكومية، وريادة الأعمال، والعلوم، والثقافة، والتكنولوجيا، وهذا الحضور لم يكن صدفة، بل هو نتيجة لعقود من الجهد الفردي والجماعي، ومن تغيّر عميق في المفاهيم المجتمعية، والسياسات التعليمية، والمنظومات القانونية. وأنا فخورة بأنني كنت أول امرأة في العالم العربي تُنتخب رئيسة للاتحاد الدولي للناشرين عام 2020، وهو منصب عالمي يعكس الثقة في قدرات المرأة العربية على القيادة على المستوى الدولي.

لكن هذا التقدّم يطرح سؤالاً جديداً: كيف نحوّل هذا الحضور إلى تأثير نوعي ومستدام؟ في رأيي، التحدّي اليوم لا يكمن في الوصول، بل في العمق؛ لا في العدد، بل في الأثر. ما نحتاج إليه الآن هو أولاً، بناء تحالفات مهنية وشبكات تأثير تتجاوز النطاق المحلي إلى الإقليمي والدولي. لقد أثبتت المرأة العربية كفاءتها في مواقع عديدة، لكنها ما زالت بحاجة إلى أدوات تمكّنها من تشكيل منظومة ثقة وتبادل معرفة تُسهم في صياغة القرار العالمي، لا فقط التفاعل معه. ثانياً، علينا التركيز على تمكين المرأة في القطاعات العلمية المتقدمة، لا سيما مجالات المستقبل مثل الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والفيزياء التطبيقية. فتمثيل النساء في هذه القطاعات لا يزال متواضعاً، رغم ما نملكه من طاقات شابة مبهرة. المطلوب هنا ليس فقط فتح الأبواب، بل تهيئة الأرضية الذهنية والدعم المؤسسي الذي يجعل من هذه المجالات ساحات حضور لا استثناء.

وثالثاً، نحن بحاجة إلى ترسيخ مفهوم "القيادة الريادية المستدامة"، بحيث لا تبقى رائدات الأعمال في حدود المبادرات الفردية أو المشاريع الصغيرة، بل يتحولن إلى مستثمرات استراتيجيات، قادرات على خلق وظائف، وبناء قطاعات اقتصادية قائمة على الابتكار، وتوسيع أثرهن في الاقتصاد الكلي. المرأة العربية اليوم ليست في مرحلة إثبات الذات، بل في لحظة البناء النوعي. وما ينقصنا ليس الطموح ولا الكفاءة، بل آليات التمكين العميق الذي يضمن أن يكون صوتها حاضراً في صياغة المستقبل، لا فقط في رواية الحاضر.

 

تقرأ كتابها “بيت الحكمة“ في الرباط. (مكتب الشارقة الإعلامي)
تقرأ كتابها “بيت الحكمة“ في الرباط. (مكتب الشارقة الإعلامي)

 

• ماذا تقولين للمرأة التي ترى أنّ الحواجز الاجتماعية والثقافية ما زالت أكبر من طموحاتها؟
- أقول لها: كوني مستعدة... أجل لا أنكر أن هناك حواجز، لكنني أؤمن أن الطموح الحقيقي يُقاس بما نصرّ على تحقيقه رغم ما نواجهه من صعوبات، بل. المجتمعات لا تتغير دفعة واحدة، بل تتطور بخطوات فردية جريئة تُراكِم الأثر وتُعيد تعريف الممكن. المرأة التي ترى التحديات واضحة أمامها، وتنهض رغم ذلك، لا تفتح الباب لنفسها فحسب، بل تعبّد الطريق لغيرها أيضاً. هذه هي القوة الحقيقية: أن يتحول الطموح الفردي إلى أفق جماعي يُلهم من حولها.

وفي لحظات التردد، أعود إلى عبارة أحبّها للكاتبة العظيمة توني موريسون: "حين تمتلكين القوة، فإن أول ما عليكِ فعله هو تمكين شخص آخر". فالقوة الحقيقية لا تعني الانتصار لنفسك فقط، بل تعني خلق المساحة لغيرك كي ينتصر أيضاً. لذلك، أقول لها: كل خطوة لكِ في اتجاه طموحكِ، حتى لو بدت صغيرة، هي مساهمة في بناء واقع جديد. لا تنتظري أن تتبدّل المعايير لتبدئي، بل ابدئي لتُسهمي أنتِ في تبديلها. التغيير لا يبدأ من الخارج، بل من الإيمان الداخلي العميق بأن لكِ مكاناً، وصوتاً، ودوراً لا يُشبه أحداً سواكِ.

المحور الخامس: الحكمة وفهم الحياة

• في لحظة عالمية مضطربة، ما هي القيم التي ترين أنّ العالم بحاجة ماسة للعودة إليها؟
- المشهد العالمي اليوم، بما يحمله من صراعات جيوسياسية وتحديات اقتصادية وتنافس غير مسبوق، يُظهر بوضوح أن الأزمة الحقيقية ليست أزمة موارد، بل أزمة قيم. وفي هذه اللحظة الدقيقة، أرى أن العالم في حاجة ماسة للعودة إلى قيمة محورية واحدة: الثقافة كركيزة إنسانية حية، لا كترف أو نشاط نخبوي. الثقافة، بتجلياتها المختلفة، هي القادرة على إعادة التوازن لعالم يشهد تصدعاً في مفاهيم العدالة، والتعايش، والتفاهم المتبادل. إنها الوسيلة الأعمق لبناء الاستقرار، لأنها تُهذّب النفس، وتُعلّمنا أن ننظر إلى الآخر لا بوصفه تهديداً، بل بوصفه شريكاً في التجربة الإنسانية.

الثقافة تمنحنا لغة للحوار، لا للانتصار، وللإصغاء لا للمزايدة، وتمنح الوعي أدوات لفهم السياق، وتفكيك الصور النمطية، وكسر الحواجز التي تبنيها السياسات العابرة. حين تكون الثقافة جزءاً من الحياة اليومية، لا حدثاً موسمياً، تتحول إلى أداة استراتيجية لحفظ السلم والسلام، وبناء الثقة، واستعادة المعنى في عالم يتجه نحو المجهول. فالثقافة لا تقرّب الشعوب فحسب، بل تُعلّم الإنسان أن يرى العالم بعيون الآخر، ويمنح كرامته للاختلاف، ويؤمن بأن قوة الإنسان تكمن في تنوعه، لا في أحاديته.

• هل تؤمنين بأنّ العولمة تقرّب الشعوب فعلاً، أم أنّها تزيد من عزلتها في قوالب استهلاكية؟
- العولمة قرّبت بين الشعوب ولا شك أنها سهّلت التفاعل والتبادل الثقافي والمعرفي أيضاً. أصبح بإمكان الطفل في الشارقة أن يقرأ قصةً كتبتها مؤلفة في كولومبيا، أو أن يتعلّم لغة جديدة في منصة تفاعلية من اليابان. هذه الانفتاحات تمنحنا فرصة نادرة لإعادة تعريف الذات في سياقات إنسانية أوسع، تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية. لكن في المقابل، إذا لم يكن لدينا وعي ثقافي راسخ، فإن العولمة قد تتحوّل إلى قالب استهلاكي مفرغ من المعنى، يُكرّس التشابه بدل التنوع، ويُعيد إنتاج نفس النماذج الإعلامية والاستهلاكية على حساب الخصوصيات الثقافية. وهنا مكمن الخطر: أن تذوب الهويات في سوق واحدة لا تعترف بالاختلاف كقيمة.

لذلك، أؤمن أن مسؤوليتنا اليوم لا تكمن في مقاومة العولمة، بل في ترشيدها وتوجيهها بما يخدم بناء الإنسان ويُعزّز تنوّعه الثقافي. وهذا ما نعمل عليه في الشارقة، حيث نسعى إلى بناء نموذج تنموي يجعل من الثقافة أداة للحوار ومن المعرفة وسيلة للتقارب. الرهان هو أن نكون فاعلين في هذه المنظومة العالمية، لا مجرد متلقين. أن نحمل أصواتنا وإرثنا إلى العالم بثقة، وأن نُعيد تعريف العولمة من منظور يضع الإنسان، لا السوق، في قلب المعادلة.

 

متوسطة سمو الحاكم وقرينته الشيخة جواهر في مقر اليونسكو - باريس. (مكتب الشارقة الإعلامي)
متوسطة سمو الحاكم وقرينته الشيخة جواهر في مقر اليونسكو - باريس. (مكتب الشارقة الإعلامي)

 

• ما هو تعريفكِ الشخصي للنجاح؟ وهل تغيّر هذا التعريف بين بداياتكِ واليوم؟
- النجاح، كما أراه، هو حركة دائمة نحو رؤية واضحة بنية صادقة لخدمة المجتمع. هو أن تسهم في بناء منظومة تنفع الناس، وتُضيف قيمة حقيقية للمجتمع، وتترك أثراً يتجاوز اللحظة والذات. النجاح هو تمكين الآخرين لتحويل أفكارهم إلى واقع ملموس، وفي القدرة على صناعة أثرٍ إيجابي يُبنى عليه، حتى عندما يتغير القائمون على الأمر.

• في عزّ المسؤوليات، أين تجدين مساحتكِ الخاصة للتأمّل والإلهام؟
- أجدها في ثلاث محطات أساسية: في القراءة، حيث أستعيد هدوئي الداخلي وأعيد ترتيب الأفكار بعيدًا عن الإيقاع المتسارع؛ وفي قضاء وقت نوعي مع العائلة، حيث يلتقي الماضي بالحاضر ويُصاغ المستقبل في دفء العلاقات الأصيلة؛ وفي صحراء مليحة، حيث يعيدني سكون الطبيعة وعمق التاريخ إلى جذوري وتواصلي مع إرث أجدادي. في تلك اللحظات، أستعيد وضوح الرؤية، وتتجدّد طاقتي للاستمرار.

• إذا أُتيح لكِ أن تتركي وصية فكرية أو جملة تلّخص رؤيتكِ للحياة، ماذا ستكون؟
- ازرع أثراً لا يُقاس بزمنك، بل يُقاس بما يوقظه من وعي في الآخرين.

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/27/2025 1:37:00 PM
بعد عامٍ على الهزيمة، تسلّط رؤية نابليون الضوء على أسباب خسارة الحزب.
شمال إفريقيا 11/27/2025 10:52:00 AM
وفاة الإعلامية المصرية هبة الزياد بشكل مفاجئ خلال نومها، في رحيل غير متوقع شكّل صدمة واسعة لدى متابعيها
الولايات المتحدة 11/27/2025 10:27:00 PM
في لحظة اكتشاف هوية المشتبه به في إطلاق النار على جنديين في  الحرس الوطني وإصابتهما بجر,ح خطرة، وحد اليمينيون، صناع رأي وجماهير لا فرق، خطابهم: إنه الإرهاب الإسلامي.
لبنان 11/26/2025 3:37:00 PM
من خلال الكشف الذي أجرته شعبة المعلومات، تبيّن أن أفراد العصابة أحدثوا فجوة في الجدار الخلفي للمحل من جهة منزل مهجور، وتمكّنوا عبرها من الوصول إلى متخت المتجر.