جورج مطر يوقظ "بيوت بيروت" في النادي الثقافي العربي
في معرضه الجديد "بيوت بيروت"، يفتح الفنان جورج مطر نافذة واسعة على المدينة التي تسكنه أكثر مما يسكنها. ليست بيروت هنا مكاناً جغرافياً، بل كائناً هلامياً، يتنقّل بين اللوحات كما يتنقل بين الذاكرة والجسد. بيوتٌ تتشابك في أشكال هندسية تتناسل من بعضها، يغلب عليها البني والأسود والأحمر، كأنها طبقات المدينة التي تراكمت عبر الزمن فوق جراحها.
الفنان الآتي من عالم الهندسة المعمارية يخلخل في هذا المعرض قواعد العلم التي عاش داخلها عقوداً، ليعيد صياغة البيت البيروتي خارج المنطق، في فضاء فنيّ يتجاوز الثبات نحو فكرة الترحال. فالبيت عند مطر ليس حجراً ولا واجهة، بل كيان يتنفس، يتألم، يرحل، ويعود. "من قال إن البيوت لا ترحل؟" يسأل الفنان، ثم يترك بيوت بيروت تهيم فوق اللوحات كأجسادٍ خفيفة، أو كأرواحٍ تبحث عن ملاذ.

اللغة البصرية للمدينة
في اللوحات، تتكرر وحدات معمارية صغيرة: نوافذ، أقواس، بيوت تختزل عمر مدينة، مرسومة ضمن شبكة شبه طباعية، إيقاعها منتظم كصفحات أرشيف أو كخرائط هندسية لم تعد قادرة على ضبط الواقع. فوق هذا النظام، ترتفع خطوط هندسية ملونة تتقاطع وتتصادم، مرسومة بحرية كاملة، كأنها خرائط مقلوبة أو محاولات لإعادة رسم المدينة من جديد.
هذا التوتر بين الشكلين – المنظم من الأسفل، والفوضوي من الأعلى – يشبه تماماً التوتر الذي تعيشه بيروت نفسها: بيروت "المخطط" و"المشروع" من جهة، وبيروت "الحقيقية" المتكسّرة والمتشابكة من جهة أخرى.

الألوان تزيد هذا الإحساس وضوحاً: الأحمر يتوهج خلف البيوت كنبض أو كجرحٍ قديم، الرمادي يكسو الخلفيات كغبار الإسمنت أو بقايا الزمن، فيما تتداخل الخضرة والزُرقة والأصفر في الخطوط العلوية كأنها إشارات الخرائط الخيالية لمدينة لا يثبت فيها شيء.
البيت جسد والهندسة ذكريات
واحدة من سمات هذا المعرض أنّ البيوت في بعض الأعمال تتخذ مكان الرأس فوق جسد الإنسان. وكأن الفنان يقول إننا "مسكونون ببيوتنا" إلى حدّ أنّ ملامحنا تستبدل بواجهاتها، وأن للبيت دور الهوية نفسه الذي للوجه. إنها استعارة دقيقة لمدينةٍ يحمل أهلها بيوتهم في قلوبهم أينما رحلوا، كما يكتب مطر: "ثابتون ثبات الأرز… نأخذ وطننا حيثما حللنا".

هذا المنظور ليس منفصلاً عن خلفيته المعمارية. فالمهندس الذي أمضى سنوات يدرس صلابة البنيان، وأساساته، وتفاصيله الدقيقة، يعود اليوم ليبعثر هذه الصلابة في فضاء اللوحة. لا يهتم بالمنطق الهندسي، بل بروح المكان. "ألبسها أجساداً وأنفخ فيها روحاً"، يكتب، في اعتراف يشبه التوبة من صرامة القوانين العلمية.
المادة واللامادة
مطر لا يخفي افتتانه بالفيزياء الكمية، ولا بإمكانية الجمع بين العلم والفن. فقد كتب قبل سنوات عن أوراقه الجامعية التي كانت مأوى للمعادلات والرسوم البيانية، وكيف تحولت اليوم إلى أرضيات للوحاته الفنية. إنها الخلفية العلمية التي تعود لتذوب داخل اللون، ولتنقلب إلى فضاء روحي وصوفيّ. هنا يطرح الفنان سؤالاً جوهرياً: "من يحوي من؟ هل العلم هو القفص أم الفن؟ أم أن اللون هو من يسجن المعادلة؟".
هذه الأسئلة تتحول في لوحاته إلى حركة مستمرة، كأن كل بيت يحاول الخروج من هندسته نحو ما هو أبعد: نحو الروح.
بيروت التي تبقى
في "بيوت بيروت"، لا يقدم جورج مطر رسماً توثيقياً للمدينة، ولا يعيد إنتاج مشاهدها التقليدية. بل يذهب نحو ما هو أعمق: نحو علاقتنا الوجودية معها. المدينة هنا لا تُرى فقط، بل تُشعر، تُتذكّر، تُفتقد، وتُعاد صياغتها من الداخل.
يقول الفنان في نصّه: " اِشهدي يا بيوت بيروت أنني بلّغت". والواقع أنّه يُبلّغ بالفعل: يبلّغ قوة المدينة وضعفها، هشاشتها وصلابتها، رحيلها وثباتها. بيروت التي تموت فينا ونموت فيها، والتي تظل رغم كل شيء تسكن اللوحات كما تسكن الذاكرة.
*معرض جورج مطر في النادي الثقافي العربي – مستمر حتى 29 الجاري
نبض