من القديس بطرس إلى البابا لاوون الرابع عشر: رحلة عبر تاريخ البابويّة

ثقافة 28-11-2025 | 06:45

من القديس بطرس إلى البابا لاوون الرابع عشر: رحلة عبر تاريخ البابويّة

تاريخ البابوية قصة ألفي عام من الإيمان والتحوّل والصراع والحوار.
من القديس بطرس إلى البابا لاوون الرابع عشر: رحلة عبر تاريخ البابويّة
البابا لاوون الرابع عشر في كاتدرائية القديس بطرس، الفاتيكان. (أ ف ب)
Smaller Bigger

يمتدّ تاريخ البابوية في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية قرابة ألفي عام، ما يجعلها واحدة من أقدم المؤسسات المستمرة في العالم. اختار يسوع المسيح الرسول بطرس ليكون أول قائد للكنيسة، بقوله "أَنْتَ الصَّخْرَةُ، وعلى هذِهِ الصَّخْرَةِ سَأَبْنِي بِيْعَتِي" (متى 16: 18)، وتوالى خلفه أساقفة روما عبر القرون في سلسلة غير منقطعة.

اليوم، ينظر أكثر من 1,3 مليار كاثوليكي إلى البابا بوصفه رئيساً للكنيسة وأباً روحياً. وقد تعاقب على السدّة الرسولية منذ زمن بطرس 267 حبراً أعظم. وعلى امتداد التاريخ، أدّت البابوية دوراً محورياً في الحضارة الغربية وما بعدها، إذ وجّهت المؤمنين وأثّرت في مسار الدين والثقافة والسياسة.

البدايات المبكرة (القرنان الأول - الخامس)
قاد البابوات الأوائل كنيسةً مضطهَدة، إذ واجه كثير منهم القتل والتضييق. وتغيّر وضع المسيحية جذرياً عام 313 عندما أصدر الإمبراطور قسطنطين مرسوم ميلانو الذي شرّع الديانة، ما أتاح للبابا أن يبرز علناً كقائد ديني.

 

القديس بطرس بالملابس الحبريّة (1610–1612) لبريشة بيتر بول روبنز.
القديس بطرس بالملابس الحبريّة (1610–1612) لبريشة بيتر بول روبنز.

 

بحلول أواخر القرنَين الرابع والخامس، أخذت سلطة البابوية في التنامي. أكّد البابا لاوون الأول (بين 440 و461م) أولوية روما في الشؤون الروحية، كما أدّى دوراً ديبلوماسياً لافتاً. ويُروى أنّه التقى أتيلا الهوني عام 452م، وتمكّن - وفقاً للتقليد - من إقناعه بعدم نهب روما. وقد جسّدت قيادة لاون، بما في ذلك مساهماته في صياغة العقيدة المسيحية، صعود النفوذ البابوي.

في القرن السادس، أحدث البابا غريغوريوس الأول (590–604)، المعروف بـ"غريغوريوس العظيم"، تحولاً أعمق في دور البابوية؛ إذ تولّى مهام الإدارة المدنية في روما، ونظّم أعمال الإغاثة للفقراء، وعزّز النشاط التبشيري للكنيسة. وبحلول العصور الوسطى، كانت فكرة البابا بوصفه "نائب المسيح على الأرض" - أي الراعي الأعلى للكنيسة - قد بدأت تترسّخ، وترسّخت معها مكانة روما وهيبتها.

العصور الوسطى (القرنان الثامن - الـ15)
أصبحت البابوية مؤسسة قويّة، ترسّخ موقعها داخل بنية القوة في أوروبا، وجمعت بين النفوذ الروحي و"السلطان الزمني"، المتمثل بالسلطان على العالم المادي. في عام 756، عقد البابا إسطفان الثاني تحالفاً مع الملك الفرنجي بيبان القصير الذي قدّم للبابوية أراضي واسعة في وسط إيطاليا، شكّلت ما عُرف لاحقاً بـ"الدولة البابوية"، حكمها البابوات على مدى أحد عشر قرناً (حتى عام 1870).

بلغت البابوية ذروتها في الفترة المعروفة بـ"العصور الوسطى العليا" (1000 - 1300). ومع البابا إنّوقنطيوس (إينوسنت) الثالث (1198–1216)، وصلت هيبة الكنيسة ونفوذها في شؤون أوروبا إلى مستوى غير مسبوق؛ إذ أكّد تفوّقها على الملوك والأباطرة، وأثّر بانتخاباتهم، وأطلق حملات صليبية.

 

البابا إنّوقنطيوس الثالث بريشة مانويل دي لا كروز فاسكيث.
البابا إنّوقنطيوس الثالث بريشة مانويل دي لا كروز فاسكيث.

 

كما كان بابوات تلك المرحلة رعاةً للعمارة والمعرفة؛ وتجسّد كنيسة القديس بطرس الكبرى في روما (التي بدأ بناؤها الأول في عهد قسطنطين ثم أعيد بناؤها لاحقاً)، والجامعات التي انتشرت في أنحاء أوروبا، الدور المحوري الذي أدّته الكنيسة في الحياة الأوروبية في العصور الوسطى.

ومع ذلك، واجهت البابوية تحدّيات كبيرة. فقد أدّت التوترات مع الحكّام إلى صراعات بارزة مثل صراع التنصيب في القرن الحادي عشر، حين تصادم البابوات - ومنهم غريغوريوس السابع - مع الأباطرة حول حقّ تعيين الأساقفة. كما عانت الكنيسة نفسها اضطرابات داخلية؛ فبين عامَي 1309 و1377، أقام عدد من البابوات في أفينيون (جنوب فرنسا اليوم) تحت تأثير النفوذ الفرنسي، وهي فترة عُرفت بالبابوية الأفينيونية.

وبعد ذلك بوقت قصير، شهدت الكنيسة الانقسام الغربي الكبير (1378-1417)، حيث وُجد بابوان متنافسان - أحدهما في روما والآخر في أفينيون - ما زعزع وحدة الكنيسة. وقد حُلّ هذا الانقسام في مجمع كونستانس عام 1417، عندما أعيد توحيد الكنيسة بانتخاب بابا واحد هو مارتن الخامس.

وقبل ذلك، عام 1054، بلغ الخلاف المتراكم بين روما والقسطنطينية ذروته بانقسام الشرق والغرب، الذي فصل الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية عن الشركة مع البابا الكاثوليكي.

 

جدارية القديس فرنسيس الأسيزي وسلطان مصر الملك الكامل بريشة جيوتو.
جدارية القديس فرنسيس الأسيزي وسلطان مصر الملك الكامل بريشة جيوتو.

 

غير أنّ المرحلة شهدت لحظات لافتة من الحوار والانفتاح. ففي عام 1219، خلال الحملة الصليبية الخامسة، التقى القديس فرنسيس الأسيزي بسلطان مصر الملك الكامل لقاءً وديّاً اتّسم باحترام متبادل. وقد شكّل اللقاء، النادر في سياق تلك الحقبة، روحاً أخوية ستُستعاد بعد قرون بوصفها تمهيداً مبكراً للحوار بين الأديان.

التحوّلات الحديثة (القرنان الـ16 - الـ19)
شكّل الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر واحداً من أعظم التحدّيات لسلطة البابوية؛ إذ دفع مناطق واسعة من أوروبا إلى الانفصال عن روما، واجهتها "حركة الإصلاح المضاد" الكاثوليكية، وعُقد مجمع ترنت (1545-1563) لإصلاح ممارسات الكنيسة وتوضيح عقائدها. وقد أسهمت الرهبانيات الجديدة، مثل اليسوعيين، في تنشيط التعليم والعمل التبشيري، ونشر الكاثوليكية في الأميركيّتين وأفريقيا وآسيا.

في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أدّت الثورات السياسية وظهور الدول القومية الحديثة إلى تقليص نفوذ البابوية تقليصاً كبيراً. شهد عصر التنوير، ومعه الثورة الفرنسية، تراجع امتيازات الكنيسة وفقدانها كثيراً من ممتلكاتها. وفي عام 1870، ومع توحيد إيطاليا، ضُمّت روما إلى الدولة الإيطالية الجديدة، منهيةً بذلك الدولة البابوية.

 

مجمع ترنت (1711) بريشة نيكولو دوريغاتي.
مجمع ترنت (1711) بريشة نيكولو دوريغاتي.

 

غير أنّ البابا بيوس التاسع دعا عام 1846 إلى انعقاد المجمع الفاتيكاني الأول، الذي أقرّ - ضمن قضايا أخرى - عقيدة عصمة البابا في المسائل المتعلقة بالإيمان والأخلاق. وحُلّ ما عُرف بـ"المسألة الرومانية" (الخلاف حول وضع البابا السياسي) أخيراً عام 1929، عندما وقّع الكرسي الرسولي وإيطاليا معاهدة لاتيران. وقد أنشأت هذه المعاهدة دولة مدينة الفاتيكان - أصغر دولة مستقلة في العالم - وضمنت للبابا سيادته واستقلاله.

وهكذا دخلت البابوية القرن العشرين محتفظةً بسلطتها الروحية، برغم تقلّص مُلكها الدنيوي إلى 0.49 كم مربع فقط في قلب روما.

البابوية في العالم المعاصر (القرنان الـ20 - الـ21)
ركّزت البابوية الحديثة جهودها على القيادة الروحية العالمية، وتقديم التوجيه الأخلاقي، والعمل من أجل السلام. في أعقاب حربين عالميتين، أصبحت البابوية صوتاً يدعو إلى السلام وكرامة الإنسان. وقد حاز بابوات مثل بيوس الثاني عشر (الذي قاد الكنيسة خلال الحرب العالمية الثانية) ويوحنا الثالث والعشرين (1958-1963) احتراماً واسعاً لدعواتهما المُلِحّة إلى الضمير والعدالة الاجتماعية.

أطلق البابا يوحنا الثالث والعشرون "المجمع الفاتيكاني الثاني" (1962–1965)، وهو محطة مفصلية هدفت إلى تحديث ممارسات الكنيسة وتعزيز الوحدة بين المسيحيين، وتشجيع روح الانفتاح تجاه الأديان الأخرى. ومن أبرز مخرجاته وثيقة "نوسترا إيتاتي" عام 1965 حول علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية، وهي وثيقة اعترفت للمرة الأولى بالإرث الروحي المشترك للبشرية، دعت الكاثوليك والمسلمين إلى "نسيان الماضي" والعمل معاً.

 

يوحنا بولس الثاني. (CPP)
يوحنا بولس الثاني. (CPP)

 

من جانبه، وسّع يوحنا بولس الثاني (1978–2005) حضور البابوية العالمي توسيعاً غير مسبوق. فالبابا القادم من بولندا - وهو أول بابا غير إيطالي منذ أكثر من أربعة قرون - زار أكثر من مئة دولة، وانفتح على اليهودية والإسلام وغيرهما، مؤكداً أنّ المؤمنين "أسرة بشرية واحدة تحت رعاية الله". وفي عام 2001، أصبح أول بابا يدخل بيت عبادة إسلامياً، بزيارته الجامع الأموي الكبير في دمشق. وهناك، وصف المسيحيين والمسلمين بـ"الإخوة"، مؤكداً أنّ الدين لا يجوز أن يُستغلّ لتبرير الكراهية أو العنف.

واصل خلفاؤه نهج الانفتاح والحوار. فالبابا بندكتس السادس عشر (2005–2013) زار في عام 2006 جامع السلطان أحمد في إسطنبول (الجامع الأزرق) وصلّى إلى جانب المفتي الأكبر، مؤكداً التزام الفاتيكان الاحترام والتفاهم المتبادل.

وفي عام 2013، أصبح الكاردينال خورخي ماريو برغوليو من الأرجنتين البابا فرنسيس، أول بابا من القارّة الأميركية وأول بابا ينتمي إلى الرهبنة اليسوعية. جعل فرنسيس من الانفتاح على المجتمعات المسلمة ركناً أساسياً في مسيرته، باحثاً باستمرار عن فرص لبناء جسور الأخوّة.

لقاء تاريخي في أبوظبي
في شباط/فبراير 2019، أصبح البابا فرنسيس أول حبر أعظم يطأ أرض شبه الجزيرة العربية، مهد الإسلام. وصل إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في زيارة استمرت ثلاثة أيام، حرص الفاتيكان على وضعها تحت عنوان السلام والحوار بين الأديان.

"أتيتُ إليكم كأخ"، قال البابا، وقد طبعت الروح الأخوية زيارته. استُقبل بحفاوة من قِبل قادة الإمارات وعلماء الدين المسلمين، وخلال قدّاسٍ في أبوظبي، خاطب حشداً بلغ 135 ألف كاثوليكي، وهو أكبر تجمّع مسيحي يُسجَّل في تاريخ المنطقة. شكّلت تلك اللحظة فرصة للاحتفال والاعتراف بوجود جالية كاثوليكية كبيرة ومؤثرة في الخليج.

 

البابا فرنسيس متوسّطاً الشيخ محمد بن زايد والشيخ محمد بن راشد. (أ ف ب)
البابا فرنسيس متوسّطاً الشيخ محمد بن زايد والشيخ محمد بن راشد. (أ ف ب)

 

كان ذروة الزيارة لقاء البابا فرنسيس مع شيخ الأزهر الإمام الأكبر أحمد الطيب، أحد أعلى المراجع في العالم الإسلامي السنّي ورئيس جامعة الأزهر في القاهرة. في الرابع من شباط/فبراير 2019، وقّع الاثنان "وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك"، وهي تعهّد تاريخي بالصداقة والتعاون.

دان البابا والإمام الأكبر كلّ أشكال العنف والإرهاب التي تُرتكب باسم الدين؛ وجاء في الوثيقة "أنَّ الأديانَ لم تَكُنْ أبَداً بَرِيداً للحُرُوبِ أو باعثةً لمَشاعِرِ الكَراهِيةِ والعداءِ والتعصُّبِ، أو مُثِيرةً للعُنْفِ وإراقةِ الدِّماءِ". وقد حملت صورة البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب يتعانقان ويصلّيان جنباً إلى جنب في أبوظبي رسالة قوية للعالم، مجسّدةً أنّ الحوار والأخوّة الإنسانية قادران على الانتصار على انقسامات الماضي.

 

البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب. (أ ف ب)
البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب. (أ ف ب)

 

أشاد قادةٌ مسلمون ومسيحيون بلقاء الإمارات، وقد تبعته زيارة البابا للعراق في آذار/مارس 2021 ولقاء المرجع الديني السيد علي السيستاني في النجف.

توِّج لقاء أبوظبي مساراً طويلاً قطعته البابوية نحو الصداقة مع العالم الإسلامي، وفي لحظة عالمية تموج بالانقسامات، مدّت البابوية يدها نحو الآخر. وعبر قرون من التحوّلات، لا تزال البابوية الكاثوليكية منارةً للقيادة الروحية، قصّتها تزخر بالقديسين والعلماء، وبالمحن والانتصارات، وبانفتاح متجدّد على العالم. واليوم، يؤدي البابا لاوون الرابع عشر دوره في السير يداً بيد مع الآخر، مواصلاً رحلة سلام تعد بأن تجلب الخير للكنيسة والعالم.

 

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/27/2025 1:37:00 PM
بعد عامٍ على الهزيمة، تسلّط رؤية نابليون الضوء على أسباب خسارة الحزب.
شمال إفريقيا 11/27/2025 10:52:00 AM
وفاة الإعلامية المصرية هبة الزياد بشكل مفاجئ خلال نومها، في رحيل غير متوقع شكّل صدمة واسعة لدى متابعيها
لبنان 11/26/2025 3:37:00 PM
من خلال الكشف الذي أجرته شعبة المعلومات، تبيّن أن أفراد العصابة أحدثوا فجوة في الجدار الخلفي للمحل من جهة منزل مهجور، وتمكّنوا عبرها من الوصول إلى متخت المتجر.
لبنان 11/26/2025 5:55:00 PM
تمّ تعديل التعاميم بحيث تمّ السماح للموسسات الفردية والجمعيات المرخصة من المراجع المختصة (خيرية أو دينية) الإفادة من التعميمين.