جُملة من المعارف المتنوّعة في مجالات العلوم الإنسانيّة، مطعّمة بالفلسفة والحميميّة وعلم النفس والإجتماع والتاريخ وغيرها؛ كلّ هذا الخزّان الثقافي الطافح بالمشاعر الصادقة، كان وما يزال الحاضنة لكلّ مناهج الكتابة. فكيف إذا أفرغت كاتبة محتواه في كتاب كما فعلت جنان خشوف. وصدر كتابها "العودة إلى الناي" ضمن منشورات "الآن ناشرون وموزعون".

كتبت جنان خشوف نصوصًا خلاسيّة جميلة بين المقالة والخواطر والشعر، فأتت نصوصها مخلوقات أدبيّة ذات فرادة اتّقان خاصّة. بدت كأنّها فعل إبداع لا يخلو من الذاتيّة في إطار أكاديمي معاصر، كونها ولجت الواقع بوسائلها الكتابيّة ومهاراتها البوحيّة الخاصّة.

نصوص من دون عناوين، لم تخلُ من الذاتيّة. فكانت خشوف من الكتّاب الذين كسروا جميع قواعد الكتابة، مستغلّة مهارتها وقدرتها للتجسير بين الشخوص التي احتوتها النصوص وبين والقارئ. نصوصٌ، اكتسبت حياتها وجمالها من تعدد معرفيّ متميّز، نابع من اختلاف المواضيع المطروحة بخلفيّات ثقافيّة كانزة  ومتنوّعة. فمهما كانت قراءة القارئ لحظية حربائيّة لا تستقر على حال، إلّا أنّها تغتني من جديد الكاتبة معنى ومبنى، وتستقرّ على وتيرة واحدة من التركيز حتّى الانتهاء من قراءة الكتاب، على الرغم من احتوائه على مئة نص، وكلّ نصٍ بمادّة مختلفة. 

 أعادتنا جنان خشوف إلى الطفولة التّي ما تزل تسري في دمنا، فحنان أمّها ما زال ينسج ذاك الضياء في ظلمات الحياة. وكأنّ والدتها أطلقتها من دون فطام، في فسحة كون من أزمنة وأمكنة مروية بدموع الأحلام، وفلسفة البساطة الجميلة: "لم أعرف أني أحب خلط الألوان/ سوى من دبس أمّي/ أحوم في كوكبها دوائر،/ وأرى تسلُّل السمار في اللون العاري/ أطفو بملعقتي فوق الخبر/ لينسكب دوائر مجنونة على الخبز اليابس!" (صفحة 43)
 عندما نتصفّح هذا الكتاب، نصل إلى أوجاع غير مدوّنة في مجلّدات الدهر، فتُوجِعنا آلام وهي تنسلّ بلا استئذان إلى مفاصل الروح، وتحيل المستقبل رمادًا مبعثرًا على أرض الرعب. فكيف هو تصوّرنا للسعادة المستحيلة عند أطفال غزّة الذين أُجهضت أحلامهم على جمر الخوف؟ فعن خطوة الرعب الأولى عند طفلة من أطفال غزّة كتبت خاشوف في الصفحة 29: "أخبرني أنها كانت تستند إلى حافة ما في أول خطواتها للوقوف، بالكاد تمشي على الحافات، عندما اشتد صوت القصف فهربت إلى حضنه، أول خطواتها خطوة رعب!"

من جعل من النهدين أضمومة حنان، قبل أن يلثم البدر في عيني الحبيبة صفو السحر؟ فهدهدة الحبيب عند خاشوف تحمل في حنانها ألق النجوم. حتّى الحميميّة تنشّقت من حبرها ملء العطر، فكان بوحها لحن عصفورة في فجرٍ تنادي عصفورًا. فأين من هذا السحر قصائد الشعراء؟ على الرغم من أنّ قلّة منهم جعل المرأة أسطورة خارج أسوار الشهوة: "أقرأ شعرًا عن النهدين/ تصيبني رغبة ملحّة بالقيء/ ما أسخف الحب العالق هناك/ وما أسخف الشعراء!" (صفحة 63)

عزفت خاشوف عزفًا منفردًا، ففاضت على ضفاف الحلم أمانينا العصية وبعض ابتهالاتنا الصامتة. رقصت مع فرشاتها رقصة غجريّة، فكسرت رتابة السكون الصاخب. ملأت الكتاب بخواطرها عن الحبّ، فترقرق جداولَ في أعماقنا. فكيف نسجت خيوط الإبداع، واستحضرتها فردوسًا على حفافي الأمل وبوح الياسمين؟: "بعض الألحان كُتبت لتُعزف عزفًا منفردًا، وحتى فالسًا خارج الإيقاع، بعض اللوحات نمشيها من دون خطة، تبدأ بقيادة الريشة وعلى مهلها، والأشعار التي تُروّض تصبح صفّ كلام!" (صفحة87)
مئة نصٍ كتبتها جنان في مئة يومٍ. هذا التحدي للذات، جعلنا أكثر إصرارًا على دخول جنّتها اليوميّة. فمن قال إنّ الجنّة فقط حوريات وسعادة؟ فإذا كان: "كما في السماء كذلك على الأرض" بحسب مشيئة الآب، فالجنّة شبيهة بكتاب "العودة إلى الناي"، حيث التقطت الكاتبة الجمال في الطرقات، والمسارح وقاعات السينما، وعاشت مع الآلام في المشافي، ودخلت من دون وجل العقد النفسيّة في المصحّات... ولئن كان بوحها حياة مليئة بألف خوف ورجاء، وذكريات مؤلمة أغلالها الفقر والحزن والتعاسة... كانت حدودها سماء فكر تتّسع لمستقبل هذه الإنسانيّة المشلّعة على أغصان الألم واليأس والقنوط. فهذه الحياة الموصوفة بادبٍ واقعيٍّ هي عتبة الباب الضيّق المؤدّي إلى الجنّة، والذي تكلّم عنه السيد المسيح: "أدخلوا من الباب الضيّق لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك" (مت 7: 13).

هل عودة جنان خاشوف إلى العزف على الناي، جعلتها روحًا تخطّت المادة الزائلة، وجعلت عقلها ابلغ وأعمق من أن تهبط إلى مدارك اللّذة الآنيّة، فأصبحت امرأة شموليّة تكبح خصال النساء الرديئة؟: "أنا الفراشة المشدوهة ما بين الخوف والرهبة، ما بين السحر والرهبة، ما بين القداسة والبلاهة والشيطنة، أنا كلّ النساء في واحدة". (صفحة 145)