فاروق غانم خداج
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني
يطلّ اسم عقل العويط في المشهد الثقافي اللبناني كبيت من نور. شاعرٌ وصحافي وناقد أدبي وأستاذ جامعي، لكن هذه الألقاب كلها تبدو قليلة أمام الأثر الذي تركه في اللغة والوعي والذائقة. منذ الثمانينيات، راكم العويط تجربة شاعرية وفكرية جعلته من الأصوات الأكثر فرادةً وحضورًا في لبنان والعالم العربي.
وُلد عام 1952. عبر الجامعة والصحافة والتعليم، تشكّلت هويّته: شاعر يختبر اللغة في أقصى توترها الجمالي، وصحافيٌ يرى الكتابة كمسؤولية، وأستاذٌ يرى في التعليم مشاركة للمعرفة.
منذ عام 1996، تولّى العويط إدارة الملحق الثقافي في جريدة النهار، وما زال صوته حاضرًا فيها حتى اليوم. كما يدرّس الأدب والصحافة في جامعة القديس يوسف.
أعماله الشعرية غنية ومتنوعة: من “ماحيًا غربة الماء” (1981)، و”المتكئة على زهرة الجسد” (1985)، و”قراءة الظلام” (1986)، و”تحت شمس الجسد الباطن” (1991)، وصولًا إلى إصداراته الأحدث مثل “الرابع من آب” و”آب أقسى الشهور…” و”البلاد” و”السيّد كوبر وتابعه” و”كتاب الغرفة” (2025). وُترجمت قصائده إلى لغات عدة مثل الفرنسية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية والألمانية.
"كتاب الغرفة": حين تصير الغرفة سيرة وكونًا معًا
في "كتاب الغرفة"، الذي صدر عام 2025، يعود العويط إلى الغرفة الأكثر حميمية في حياته، لكن الغرفة هنا ليست مجرد مكان مادي، بل كيان روحي وجسد ثانٍ. الناشر يصف الكتاب بأنه “سيرة روائيّة – شعريّة”. الغرفة تمثل موضع الكتابة والقراءة والحبّ والحنين والمرض، وجسرًا بين ذات الشاعر والعالم، بين الماضي والحاضر.
يبدأ النص من صيف وخريف 2016، ويتطور تدريجيًا دون خطة صريحة، كأن الكتابة تتدفق كموجة لا تتوقف، ويكشف العويط أن ما بدا في البداية كمقطع بسيط يتحول إلى سيرة داخلية، انسياب سردي، حالة وجودية عميقة.
نص مفتوح على الذات وعلى جيل بأكمله
هذا الكتاب ليس مجرد سيرة شخصية، بل سيرة جيل لبناني وُلد في مطالع الخمسينيات، عاش الحلم والانكسار، مواجهة الحرب، والترميم من داخل الخراب. يتقاطع فيه الخاص والعام: الطفولة، الجامعة، الصحافة، الأصدقاء، واللغة نفسها.
العويط يلتفت إلى التفاصيل الصغيرة: فنجان القهوة، السرير، الشرفة، الطاولات، المكتبة … لكنه يحولها إلى مفاتيح لقراءة تحولات زمنية وتحولات داخلية. الماضي والحاضر يلتقيان ويتداخلان في لحظة سردية واحدة، والانسياب يصبح قريبًا من الصوفيّة دون أن يفقد وضوح الألم وملامسة الواقع.
إعجابي بالكتاب ككاتب
حين قرأت “كتاب الغرفة”، شعرت أنني أمام مرآة تلمس روحي؛ كل صفحة كانت تهمس إليّ، كما لو أن العويط يكتب لي شخصيًا. إعجابي به ليس فقط لما يقدّمه من بلاغة متقنة، بل لأنه يجعل الكتابة فعلًا حيًّا، يتنفس بين السطور. ككاتب، أراه مثالًا حيًا على قدرة اللغة أن تعيد ترتيب العالم من الداخل: الغرفة الصغيرة تصبح كونًا بأسره، وسيرة الفرد تصبح حكاية جيل بأكمله.
القارئ أمام كتابٍ لا يكتفي بأن يُقرأ
لغة العويط في هذا العمل هادئة، مضيئة، ليست استعراضية، بل بها روح الهمس والمناجاة. هو لا يسترجع الماضي بمثالية بطولية، بل يواجه ندوب الزمن وكسور الحياة بأمل رفيق وثبات إنساني. يكتب عن الحب والموت والأحباب والرفاق، عن الألم والخسارة، لكن أيضًا عن الحنين والتجدد.
القارئ لا يقرأ فقط حكاية العويط؛ بل يعيد النظر في غرفته، في تفاصيل حياته اليومية، في الأشياء التي يمرّ بها دون أن يلتفت لها، كما لو أن العويط يدعوه ليكون مشاركًا في تأملاته، ليعايش ذاته من جديد من خلال نصه.
عقل العويط: شاعر، قارئ، مبدع استثنائي
ما وراء “كتاب الغرفة” تقف شخصية أدبية نادرة؛ شاعر منسّج بالوعي، صحافي ملتزم، ناقد حساس، وقارئ مهووس. لقد أسّس عالمًا لغويًّا خاصًّا على مدى عقود، لكنه يكتب اليوم كما لو أنه يبدأ للتو: بحماسة المبتدئ، وبحكمة الخبير، وبإنسانية لا تخلو من رقة.
خاتمة: غرفة تتّسع للكون
في “كتاب الغرفة”، لا يجد القارئ مجرد غرفة؛ يجد عالمًا بأكمله، يجد ذاته، يجد ذكرياته، يجد نموذجًا لنص يمكن أن يكون مكانًا للعيش والكتابة والوجود. غرفة واحدة، لكنها تفتح نوافذ على الذاكرة، على الوطن، على اللغة، وعلى الوجود البشري بأكمله.
نبض