”شاعر“ الفائز بـ“نجمة“ الجونة: عن كوارث أنصاف الموهوبين

ثقافة 01-11-2025 | 17:59

”شاعر“ الفائز بـ“نجمة“ الجونة: عن كوارث أنصاف الموهوبين

فيلم "شاعر" للكولومبي سيمون ميزا سوتو فاز بـ"النجمة الذهبية" في مهرجان الجونة، وحظيت أيضاً بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كانّ، ضمن قسم "نظرة ما".
”شاعر“ الفائز بـ“نجمة“ الجونة: عن كوارث أنصاف الموهوبين
أوبيمار روس في دور أوسكار.
Smaller Bigger

إن كنتم من محبّي الأفلام التي تلاحق بطلها على إيقاعٍ واحد، وتحمل قضيتها حتى أقصى مدى، حيث كلّ شيء يدور حوله ولا شيء يحدث من دونه، فالأرجح أنكم ستُعجبون بـ"شاعر" للمخرج الكولومبي سيمون ميزا سوتو. هذا العمل المبهج الفائز بـ"النجمة الذهبية" في مهرجان الجونة السينمائي الأخير، هو ميلودراما حظيت أيضاً بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كانّ، ضمن قسم "نظرة ما" في أيار الماضي.

أوسكار (أوبيمار روس) أستاذ فلسفة وشاعر مضطرب. شخصية منكهة تبحث عن اعتراف. رغم اقترابه من الستين، لا يزال ينام في بيت والدته العجوز. إنه شاعر مهووس بالشعر، يعيش حياة مستعارة، كأنما يختبئ خلفها. شاعر مهووس بالشعر؟! هذا أضعف الإيمان، قد يردّ أحدنا، إلا أن الفيلم يذهب أبعد من ذلك، محوّلاً النعمة إلى مصيبة، مؤكدّاً أن حبّ شيءٍ ما ليس سوى جزء يسير من طريق النجاح. فالحبّ لا يضمن الخلاص. في هذا المعنى، ينفض الفيلم الغبار عن تلك الكليشيهات، واضعاً شاعره أمام مرآة أوضاعه النفسية والاقتصادية والاجتماعية المتردّية، حيث يصبح الشعر ساحة للصراع أكثر منه ملاذاً.

عرف أوسكار فترات حياتية أفضل، ولا يزال يقتات على فتات مجدها العابر. مطلّق، وأبٌ لابنةٍ لا تريد أن يكون لها به صلة، يعيش على وهم أن ما يُبقيه حيّاً هو إيمانه بأنه شاعر ملعون، وبأن العذاب وحده يصنع منه مبدعاً. إنه الامتداد الكاريكاتوري لصورة المثقّف الجالس على كونتوار حانة، بكأسٍ في يده، يستدرّ الإلهام من مرارته.

 

مع بيورلادي (ريبيكّا أندراده).
مع بيورلادي (ريبيكّا أندراده).

 

يعتاش أوسكار على هذه الصورة، يستثمرها ليُبقي الشعلة في داخله، باحثاً عن معنى لوجوده وسط محيطٍ معادٍ له ولأفكاره. غير أن ما يعانيه في الجوهر ليس أزمة فنّان، بل العجز عن الاستمرار في الحياة ككلّ، كإنسانٍ فقد صلته السوية بالعالم. أوسكار شاعرٌ في نظر نفسه، بينما يعجز الآخرون عن رؤيته كما يرى هو ذاته. كيف يمكنه أن ينتقل من أن يكون شاعراً في ذاته إلى أن يكون شاعراً في أعين الآخرين؟ في أي فيلمٍ آخر، كان هذا الانتقال ليشكّل ذروة الحكاية وخاتمتها السعيدة، على سبيل ردّ الاعتبار إلى البطل أو منحه بصيص أمل. لكن فيلمنا لا يخضع لهذا الابتزاز العاطفي، بل يترك بطله يواجه القسوة بكلّ وجوهها، يُمرّغ أنفه في التراب على نحوٍ لا يخلو من سادية، تطبيقاً للمقولة الشهيرة: "الضربة التي لا تقتلك تجعلك أقوى". وهو فعلاً ما سيحدث لأوسكار. 

من رحم معاناته يصنع الفيلم شيئاً لافتاً، ظريفاً، إيجابياً، صادماً، وإنسانياً في آن واحد. ومن هنا تتجلّى أهمية هذا العمل المتواضع ظاهراً، المعقّد باطناً، الذي يبني تأثيره تدريجياً حتى يبلغ ذروته في الخاتمة، ضارباً من حيث لا نتوقّع، ولا ندرك إلا بعد أن يُسدل الستار.

ما كانت حكاية أوسكار لتبلغ هذا المدى لولا لقاؤه، في منتصف الفيلم، بيورلادي (ريبيكّا أندراده)، فتاة من عائلة فقيرة تكتب قصائد جميلة بعفويةٍ صادقة. سرعان ما يرى فيها الموهبة التي يمكنه الإسهام في إبرازها، فيسعى جاهداً إلى إشراكها في مسابقة للشعر. قد يدري أو لا يدري أن هذه المراهقة، التي لا تبالي بالمجد ولا تكترث بالشهرة، تنقض نظريته القائلة إن الشعر لا يولد إلا من رحم المعاناة. صحيح أن الفتاة تنتمي إلى عائلة فقيرة، لكن أفرادها متكاتفون إلى حدّ ما، وحياتها بعيدة عن العذاب الوجودي الذي يسكنه. ستصبح يورلادي عند أوسكار نوعاً من التعويض عن أشكالٍ متعدّدة من النقص، ولا سيما في علاقته المرتبكة بابنته بعد طلاقه من زوجته. يظنّ أنه سيكتب من خلالها أجمل قصائده، وكأنها امتدادٌ لحلمه المؤجَّل. 

رغم أن أوسكار هو مركز الفيلم ومحور رؤيته، فإن وجود شخصيةٍ ثانية مثل يورلادي ضروري ليذهب الفيلم أبعد في طرحه. فبفضلها تتشعّب السردية إلى أزقّةٍ كثيرة، وتتناول مواضيع جانبية تُغني الفيلم وتنعكس عليه إيجاباً، أبرزها فكرة النجاح بالاستعارة؛ أي محاولة تحقيق الذات عبر إنجاح الآخر، تعويضاً عن فشل شخصي مستتر.

 

روس خلال فوز الفيلم في الجونة.
روس خلال فوز الفيلم في الجونة.

 

على الرغم من صدق العلاقة بينهما وجمالها، سيفشل أوسكار في أداء دور الـ"بيغماليون". إذ يسير كلٌّ منهما في اتجاه مغاير للآخر؛ يجمعهما الشعر وتفرقهما النظرة اليه، كما لو أن اللقاء بينهما هو تصادم بين البراءة والمعاناة الطويلة التي تحوّلت مرارة. لقاء كيانٍ لا يزال طريّاً بالعفوية مع آخر فقد عفويته تحت وطأة "الدعك" والتجارب المخيبة.
في هذا الإطار، يحاول الفيلم طرح سؤال الفنّ وعلاقته بالظروف الاقتصادية والاجتماعية. هو سؤال قديم يتجدّد دوماً ليفتح أمامه نافذة على السياق السياسي والاجتماعي الكولومبي الذي تجري فيه الأحداث. فالإبداع، كما يلمّح الفيلم، يحتاج إلى تفرّغ ورفاهٍ لا تملكهما هذه المراهقة، ولهذا سيكون مشوارها معه قصيراً، بقدر ما هو صادق وعابر.

لم ينجز سوتو (في تجربته الإخراجية الثانية الطويلة) فيلماً ”عن“ الشعر بقدر ما أنجز فيلماً ”من خلال“ الشعر، إذ يتحوّل في النهاية إلى بورتريه هجين لشاعر بائس، مستعيناً بشخصيات ثانوية يحرص على إبقائها على حافة الكاريكاتور، وأحياناً تكون رمادية. تتطوّر علاقتنا بأوسكار مع تقدّم الأحداث، لكن لا مكان للسخرية في نظر المخرج، بل هناك عطف واضح وتفهّم عميق لسلوكيات هذه الشخصيات، من دون أدنى رغبة في تبريرها.
يظلّ الفيلم في جوهره عملاً يُجمِّل أنصاف الموهوبين الذين لا يفعلون سوى افتعال الكوارث كلّما تمادوا أكثر في صناعة "الخير" من حولهم. مدفوعاً بإيمانٍ معين بأن كوارثهم أجمل الكوارث، يقدّم سوتو فيلماً يخفّف حدّة الصراعات الطبقية، مفضّلاً الضرب في جميع الاتجاهات بدل الاصطفاف مع طرف واحد.

لا يدخل أوسكار القلب منذ اللحظة الأولى. نحتاج إلى كثير من الصبر والجهد كي نحبّه. فهو متعب، صبيانيٌّ في تصرّفاته، ولا يبدو عليه ذكاءٌ مميّز، لكنه في النهاية يمسّنا، لا بضعفه إنما بإصراره على مواجهة مصيره. 

يلقي الفيلم نظرة لئيمة جارحة على الأوساط الشعرية وعلى مَن يكلَّفون تدريسها، أولئك الذين يتراجعون أمام أول خطر، حتى وإن كان خطراً ناتجاً من اتهامات باطلة. في هذا الجانب، لا يساوم الفيلم ولا يهادن، عارضاً الظلم الذي يتعرّض له الشاعر باسم حماية بعض الفئات الهشّة، تاركاً إياه بلا حصانة من أي نوع.

في أولى تجاربه أمام الكاميرا، يقدّم أوبيمار روس وجهاً ملتبساً للصراع الداخلي الذي يرسم الفيلم تجلّياته بديناميكية لافتة. صحيح أن العمل لا يحافظ دائماً على المستوى نفسه، اذ يتخلّله صعود وهبوط متواصلان في الثلثين الأولين، لكنه يفاجئنا في نصف الساعة الأخير بانعطافة مشوّقة ومؤلمة في آن واحد. حتى إن الفيلم يجعلنا نشعر بالذنب لأننا نضحك أحياناً على لحظات، ليست في المحصّلة سوى مآسي الآخرين.

 

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/31/2025 2:00:00 PM
أشقاء الشرع.. مسؤولان بارزان في الحكومة وثالث "معاقَب"
شمال إفريقيا 10/31/2025 9:38:00 PM
 مجلس الأمن يصوت على مشروع قرار ينص على أن تتمتع الصحراء الغربية بحكم ذاتي تحت سيادة المغرب
ثقافة 10/30/2025 10:50:00 PM
بعد صراع طويل مع المرض...
اقتصاد وأعمال 10/31/2025 4:25:00 AM
استقرّ مؤشر الدولار بالقرب من أعلى مستوياته في ثلاثة أشهر مقابل العملات الأخرى ما يجعل الذهب أكثر تكلفة بالنسبة لحائزي العملات الأخرى.