شوقي أبي شقرا السفر... القلم منساباً كجدول يرسم الماء
د. قصي الحسين*
"نشكرها لأنها السيدة صاحبة الحانة الكبرى والزهرة التي هي الفندق والتي هي الملاذ. ونحن عندها منذ الليل ومنذ النهار، ولأنها الترويقة ثم الغداء ثم العشاء. ولأنني تلميذها في الداخل، بين شعاب الجدران وبين أسراب الكتب وبين الثنايا والأخاديد وبين الرضى واليقين... يزداد الضوء ولا ستارة تحجب... عن بيداء المطلق في النخيل، وفي مساحات شخصه".
حين الكتابة توقظ الأحاسيس وتجعل كل شيء في داخلك يتأهب لإرتداء ثياب العيد، يصبح الفرح بالنص، أعظم أنشودة ماطرة في القلب. لا يعود المرء مأخوذاً بالجماليات المكتوبة كوشم على ظاهر البادية، بل أيضاً على حاضر المدينة التي أتحفت بإبنها، وهيأت له الجمهور، حتى الإصغاء للهمس.
"بغية إنساننا المنجمي القامة والفاحم والفاجع والملتوي في الصعوبات الحاسمة. ولا بد من الشكل فكان. ومن الدفة والتحولات ومرساة حورية راقصة خلاقة".
شوقي أبي شقرا غادرنا... لم يغادرنا... هو عائد إلينا حتماً مع الصباحات. مع نذر الشمس. مع الندى الذي إعتاد العشب أرجوحة للنجمات. للسنانير.للألأة المروج والضفاف وترابين الحبق. وغصون القلب. تتحضر على يدين تعزفان المواعيد. وتعريان الأناجيل. فيصطف العالم المسكون، كما موجة خلف موجة، تهدي أياديها لحصى الشطآن. لرمال تذوب حنيناً. تذوب عذوبة. تذوب سكرة، في حدقات العيون. باسمة كعين صقر.
"تعالي لئلا العتاب سيكون أنت. ونحن نرى أنك مسرعة وأنك القفزة تلو القفزة تلو الهلاك. وسوف المودة هي تعزف لك نشيد الإنبعاث من وحل الوهلة.... وذات الكلمة الأعجوبة إذ توقظ ذلك السمر ويرتاح الأمر وقفطان الأمير".
هوذا ذاك، شوقي أبي شقرا، صقر الأبجدية. يأخذها بمنقاره ويطير إلى الأعالي. هناك يرسم حدود المعنى. حيث العوالم كلها مشغولة، بما يترك لها: خيطاناً من ذهب. وعسلاً من إبر النحل. وصياغة، كما دارات إفترشها الثلج قبل موسمه. يستقبل عليها زوار البياض الذي كان بالأمس.
"وكلا المؤلفين: جبران وسانت أكزوبيري، لهما ذلك النفاذ إلى ما وراء المرآة التي تعكس الحاضر وتتراءى فيها كل الوجوه وكل الرؤوس وكل الموضة والثياب".

كان شوقي أبي شقرا يصنع على الطروس اليومية عناقيد قلبه الذي أضاءه الفجر فوق الروابي. حبة حبة، كما عقود اللؤلؤ، هي آثاره البادية كوشم على بدن الورق الساحر، حين يكون موقعاً صفحة صفحة، بأصابعه الخمس الحانية، مثل دالية الدار، فوق مصطبة المواعيد. و العشايا مأخوذة بتحضير حبر العيون. الأسود اللماح إلى جفنين وقطبين وبسمة. ويد تخطف المعنى من كأسها. كأنها تبرق للينابيع، أن تجدد ماءها، لأن السهل يسيل على ورق طري ينمو على الشبابيك، وفوق أقواس العمر الذاهب، صنوبرة صنوبرة، إلى الأعلى.
"والآن هوذا الآخر الذي رافقني منذ بيت شباب ومنذ أن كانت يقظتي هنا. وكان الأب يوسف الأشقر ولا يفارق البيانو والصوت له والموسيقى".
لا يترك شوقي أبي شقرا الحروف تغرد وحدها مثل العصافير. يتكتك لها بقمح العيون، يساقط أمامها. فتلتم على وليمة في أواساط لياليه التي أضاءها بدمع الشمعة التي أذابت كحل الليلة في عينيه. تصر على إتمام آية.
"... بل هو، في نمط له وسلوك خاص وحميم، جعل القمر يغار، والعاشقة تغار، ومعظم القوم غيارى".
كتابات وفرت علينا العودة إلى البحار. إلى العباب الجم. إلى السفن يقلقها الموج. إلى النفوس أتعبها الشوق. أبكاها العمر. إلى الأجراس تقرع اليوم لنا: غادرنا شوقي أبي شقرا...ها هو يخطو نحونا. على ظهره صخرة الكتابة. صخرة العمر، تحمل فوق ظهرها كل حجارة القلعة.
" وهنا فقط نتذكر صورة عمرها سنوات، لأن الشخص الذي عاشرناه كان بعد منتعشاً، مزدهراً... قضى على صنف من الأدباء ممن يفوح صيتهم، من قماشة ونكهة أكثر من عطاء ونصوص".
أسماء للحجارة محفورة على حجر الكتابة. ورسوم مشتاقة إلى معلقات أبي شقرا، صنع لها جدراناً. صنع لها أعمدة. أضاءها زماناً بعينيه. صارت معلقات، في سماء الكتابات الأولى.
"في المدرسة، والبنطلون قصير والمخيلة واسعة، قرأناه قصصاً وأدخلنا إلى ضيافة العرزال المرفرف الأوراق المتعابطة عند الهبوب والراقصة عند الحفيف. وترك لنا مذاق القعدة ونخوة الناطور وعصاه، وتلك التحية الشريرة".
لا ينسى شوقي أبي شقرا إلا ذاته، حين يفترش طروسه لنا. تعالوا إلي: مكاناً مزدحماً بكم. بي. أنا العمر الذائب بين الهنا والهنا. وأنتم جسور الزمن. تعالوا نعبر العبارة التي كانت لنا. تعالوا نجدد عمارتنا. تعالوا نجدد عبارتنا.
"في هذة اللحظات من الضوضاء والرياح اللاقحة، لا خلاص سوى أن نضرب نحن في البستان الشعري. وفي فيء الثمار والأشجار التي تطلع من كل صوب. وترسل عبيرها إلى الملأ. إلى القارئ المزدحم في عقله وفي نور عينيه".
أجمل بك شوقي أبي شقرا: السفر الخالد الذي أورثتنا. فيه مجمع الأبجدية الجديدة، مغسولة بطهر عينيك. مغسولة بالأقاح. والمرطبان رائحته عسل العمر. وتيجان المروج تمشي على رؤوس نحلة تجني الأقاح. لا تمل الجفاف حتى الينابيع. عرائس زهر وورد.
"والحاج أيضا ذو العلم الدقيق والأخاذ في الصرف والنحو والبيان والعروض في المعهد البولسي وكأنه آت من مجال العدوى. ومن بئر الحياة العلمية. ومن أنه يبسط لنا جهده في تاريخنا المدرسي. وفي الكمال الذاتي".
إعتاد أبي شقرا أن يكون خصيباً، كل وقته. أن ينسى التفاصيل في الوجوه التي ذهبت إلى يديه. إعتاد أن يكون سهلاً رحيباً طوال دهره. وهذة الأسماء التي حواها قلمه، صارت أكثر خضرة. سقاها من ماء جفنيه. كل إسم صار أيقونة: "ينام الراقدون. نتسامر نحن والفرقد والشمعة إبنة الأرض. دار نلسن- مؤسسة أنور سلمان الثقافية. 2025: 654 ص".
"القهوة على الأرض ما الصراخ ورب البيت الصغير يحنو... من أوحى للزوار أن يأتوا عنده للمحة، لسهرة".
شوقي أبي شقرا، جرح الكتابة الذي أزهر عوسجاً. متعة القراءة التي تنال من العادة الكسولة. أمل الأجيال في مغادرة الجلابيب الفضفاضة. فرح الشمس والنهر والفجر والعصفورالمتلعثم. والشاعر الذي ينام على ذراعه طوال العمر. يمتد. يشتد: قلماً يشق الفضاوات كلها. يجعلها أكثر حنواً علينا، من يبوسة الدم والذبيح.
كتاباته كلها. بحروفها كلها. بأعمدتها كلها. بأسمائها: أجراس تقرع لنا.
"ومن ثم كأن الراحة المستطابة واللينة هي ثمر، هي الهدية من خالق إلى مخلوق. والسيطرة على تنين العدم وعلى الرمح ليطرد مصير الجب وفكر الهلاك".
* أستاذ في الجامعة اللبنانية
نبض